[ سنسمه على الخرطوم ] أي سنجعل له علامة على أنفه بالخطم عليه، يعرف بها إلى موته، وكنى بالخرطوم عن أنفه على سبيل الاستخفاف به، لأن الخرطوم للفيل والخنزير، فإذا شبه أنف الإنسان به كان ذلك غاية في الإذلال والإهانة، كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر، قال ابن عباس : سنخطم أنفه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش، وقد خطم يوم بدر بالسيف قال الإمام الفخر : لما كان الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لإرتفاعه عليه، ولذلك جعلوه مكان العزة والحمية، واشتقوا منه الأنفة، وقالوا في الذليل : رغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين، فكيف على أكرم موضع من الوجه ! ! ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الحديقة وما ابتلاهم تعالى به من إتلاف الزروع والثمار، وضربه مثلا لكفار مكة، فقال سبحانه
[ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ] أي إنا اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع، بدعوة رسول الله (ص) كما اختبرنا أصحاب البستان المشتمل علي أنواع الثمار والفواكه، وكلفنا أهل مكة أن يشكروا ربهم على النعم، كما كلفنا أصحاب الجنة أن يشكروا ربهم ويعطوا الفقراء حقوقهم، قال المفسرون : كان لرجل مسلم بقرب (صنعاء) بستان فيه من أنواع النخيل والزروع والثمار، وكان إذا حان وقت الحصاد، دعا الفقراء فأعطاهم نصيبا وافرا منه، وأكرمهم غاية الإكرام، فلما مات الأب ورثه أبناؤه الثلاثة، فقالوا : عيالنا كثير والمال قليل، ولا يمكننا أن نعطي المساكين كما كان يفعل أبونا، فتشاوروا فيما بينهم وعزموا على ألا يعطوا أحدا من الفقراء شيئا، وأن يجنوا ثمرها وقت الصباح خفية عنهم، وحلفوا على ذلك، فأرسل الله تعالى نارا على الحديقة ليلا أحرقت الأشجار، وأتلفت الثمار، فلما أصبحوا ذهبوا إلى حديقتهم، فلم يروا فيها شجرا ولا ثمرا، فظنوا أنهم أخطأوا الطريق، ثم تبين لهم أنها بستانهم وحديقتهم، وعرفوا أن الله تعالى عاقبهم فيها بنيتهم السيئة، فندموا وتابوا بعد أن فات الأوان
[ إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ] أي حين حلفوا ليقطعن ثمرها وقت الصباح، قبل أن يخرج إليهم المساكين
[ ولا يستثنون ] أي ولم يقولوا (إن شاء الله ) حين حلفوا، كأنهم واثقون من الأمر
[ فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ] أي فطرقها طارق من عذاب الله، وهم في غفلة عما حدث، لأنهم كانوا نياما، قال الكلبي : أرسل الله عليها نارا من السماء فاحترقت وهم نائمون
[ فأصبحت كالصريم ] أي فأصبحت كالزرع المحصود إذا أصبح هشيما يابسا، قال ابن عباس : أصبحت كالرماد الأسود، قد حرموا خير جنتهم بذنبهم
[ فتنادوا مصبحين ] أي نادى بعضهم بعضا حين أصبحوا، ليمضوا على الميعاد إلى بستانهم
[ أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين ] أي اذهبوا مبكرين إلى ثماركم وزروعكم وأعنابكم، إن كنتم حاصدين للثمار، تريدون قطعها
[ فانطلقوا وهم يتخافتون ] أي فانطلقوا نحو البستان، وهم يخفون كلامهم خوفا من أن يشعر بهم المساكين، قائلين
[ أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ] أي لا تدخلوا في هذا اليوم أحدا من الفقراء إلى البستان، ولا تمكنوه من الدخول
[ وغدوا على حرد قادرين ] أي ومضوا على قصد وقدرة في أنفسهم، يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم، قال ابن عباس :[ على حرد ] على قدرة وقصد، وقال السدي : على حنق وغضب، وقال الحسن : على فاقة وحاجة، وقول ابن عباس أظهر (( قال الطبري : وأولى الأقوال بالصواب قول من قال معناه : غدوا على أمر قد قصدوه واعتدوه واستسروه بينهم قادرين عليه، وهو ترجيح لقول ابن عباس وهو الذي اخترناه وهو الأظهر، والله أعلم )).


الصفحة التالية
Icon