روي أنه لما نزل قوله تعالى [ عليها تسعة عشر ] قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم، إن ابن أبي كبشة - يعني محمدا(ص) - يتوعدنا ويخوفنا بجهنم، ويخبر أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الجمع العظيم ؟ أيعجز كل عشرة منكم، أن يبطشوا بواحد منهم ؟ ! فقال " أبو الأسد الجمحي " : أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، واكفوني انتم اثنين، فأنزل الله تعالى :[ وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة، وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا.. ] الآية.
التفسير :
[ يا أيها المدثر قم فأنذر ] أي يا أيها المتغطي بقطيفته يريد النوم والراحة، قم من مضجعك قيام عزم وتصميم، وحذر الناس من عذاب الله إن لم يؤمنوا، خوطب (ص)بهذا اللفظ " المدثر " مؤانسة له، وتلطفا، كما خوطب بلفظ [ المزمل ] في السورة السابقة، قال المفسرون : كان (ص) يتعبد في غار حراء فجاءه جبريل بالآيات الكريمة [ اقرأ باسم ربك الذي خلق ] الآيات وهي أول ما نزل عليه من القرآن، فرجع يرجف فؤاده فقال لخديجة : زملوني، زملوني فنزلت [ يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ] الآيات، ثم فتر الوحي فحزن (ص) فبينما هو يمشي سمع صوتا من السماء، فرفع رأسه فإذا الملك الذي جاءه بحرإء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فعراه (ص) من رؤيته الرعب والفزع، فجاء إلى أهله فقال : دثروني، دثروني فأنزل الله :[ يا أيها المدثر قم فأنذر ] قال القرطبي : وفي هذا النداء ملاطفة فى الخطاب، من الكريم إلى الحبيب، إذ ناداه بوصفه ولم يقل " يا محمد " ليستشعر اللين والملاطفة من ربه، ومثله قول النبي (ص) لحذيفة بن اليمان يوم الخندق :" قم يا نومان "
[ وربك فكبر ] أي عظم ربك، وخصه بالتمجيد والتقدير، وأفرده بالعظمة والكبرياء، فليس هناك من هو أكبر من الله ! ! قال الألوسي : أي اخصص ربك بالتكبير، وهو وصفه تعالى بالكبرياء والعظمة، اعتقادا وقولا، وإنما ذكرت هذه الجملة بعد الأمر بالإنذار، تنبيها للنبى (ص)، على عدم الاكتراث بالكفار، فإن نواصي الخلائق بيد الجبار، فلا ينبغي أن يبالي الرسول بأحد من الخلق، ولا أن يرهب سوى الله، فإن كل كبير مقهور تحت عظمته تعالى وكبريائه
[ وثيابك فطهر ] أي وثيابك فطهرها من النجاسات والمستقذرات، فإن المؤمن طيب طاهر، لا يليق منه أن يحمل الخبيث، قال ابن زيد : كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه وقال ابن عباس : كنى بالثياب عن القلب، والمعنى : وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي واستشهد بقول غيلان : وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع. يقول العرب : فلان طاهر الثياب أو نقي الثياب، يريدون وصفه بالنقاء من المعايب وذميم الصفات، ويقولون : فلان دنس الثياب إذا كان موصوفا بالأخلاق الذميمة، قال الرازي : والسبب في حسن هذه الكناية، أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان، فلهذا السبب جعلوا الثوب كناية عن الإنسان، فقالوا : المجد في ثوبه، والعفة في إزاره
[ والرجز فاهجر ] أي اترك عبادة الأصنام والأوثان ولا تقربها، قال ابن زيد : الرجز : الآلهة التى كانوا يعبدونها، فأمره أن يهجرها فلا يأتيها ولا يقربها وقال الإمام الفخر : الرجز : اسم للقبيح المستقذر كالرجس، قال تعالى :[ فاجتنبوا الرجس من الأوثان ] وقوله :[ والرجز فاهجر ] كلام جامع لمكارم الأخلاق، كأنه قيل له : اهجر الجفاء، والسفه، وكل قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين، والمراد بالهجر : الأمر بالمداومة على ذلك الهجران، كما يقول المسلم :[ اهدنا الصراط المستفيم ] ليس معناه إنه ليس على الهداية، بل المراد ثبتنا على هذه الهداية