[ لواحة للبشر ] أي تلوح وتظهر لأنظار الناس من مسافات بعيدة، لعظمها وهولها، كقوله تعالى :[ وبرزت الجحيم لمن يرى ] قال الحسن : تلوح لهم من مسيرة خمسمائة عام حتى يروها عيانا فهى بارزة إلى أنظارهم، يرونها من غير استشراف ولا مد أعناق (( اختار بعض المفسرين أن معنى ﴿لواحة للبشر﴾ أي محرقة للجلود مسودة لها، تلفح الجلد لفحة فتدعه أسود من الليل وإن ﴿البشر﴾ جمع بشرة وهي جلدة الإنسان الظاهرة، والظاهر ما ذكرناه لأن الله تعالى ذكر من وصفها ﴿لا تبقي ولا تذر﴾ فأي فائدة في وصفها بتسويد البشرة بعد ذلك، وما اخترناه هو ما رجحه القرطبى ونسبه إلى ابن عباس وكذلك ما رجحه الإمام الفخر الرازي والله اعلم )).
[ عليها تسعة عشر ] أي خزنتها الموكلون عليها تسعة عشر " ملكا " من الزبانية الأشداء كقوله تعالى :[ عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ] قال ابن عباس :" ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع، فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم " قال الألوسي : روي عن ابن عباس أنها لما نزلت [ عليها تسعة عشر ] قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة - يعني محمدا - يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم - أي العدد - الشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ؟ فقال أبو الأشد الجمحي :- وكان شديد البطش - أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله :
[ وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ] أي وما جعلنا خزنة النار إلا من الملائكة الغلاظ الشداد، ولم نجعلهم من البشر حتى يصارعوهم ويغالبوهم
[ وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ] أي لم نجعل ذلك العدد، إلا سببا لفتنة وضلال المشركين، حيث استقلوا بعددها، واستهزءوا، حتى قال أبو جهل : أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد! منهم، ثم تخرجون من النار ؟ قال الطبري : وإنما جعل الله الخبر عن عدة خزنة جهنم فتنة للكافرين، لتكذيبهم بذلك، وقول بعضهم لأصحابه - على سبيل الإستهزاء - أنا أكفيكموهم
[ ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ] أي ليتيقن أهل الكتاب من صدق محمد، وأن هذا القرآن من عند الله، إذ يجدون هذا العدد في كتبهم المنزلة
[ ويزداد الذين آمنوا إيمانا ] أي ويزداد المؤمنون تصديقا لله ورسوله، بما يشهدون من صدق أخبار نبيهم (ص)، وتسليم أهل الكتاب لما جاء في القرآن، موافقا للتوراة والإنجيل
[ ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ] أي ولا يشك أهل الكتاب والمؤمنون في عددهم، وهذا تأكيد لما قبله، لأنه لما ذكر اليقين نفى عنهم الشك، فكأن قوله :[ ولا يرتاب ] مبالغة وتأكيدا، وهو ما يسميه علماء البلاغة : الإطناب
[ وليقول الذين فى قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ] أي وليقول الذين في قلوبهم شك ونفاق، والكافرون من أهل مكة : في شيء أراد الله بهذا القول العجيب ؟ الذي هو مثل في الغرابة والنكارة ؟ ولماذا يخوفنا بواسطته من سقر وخزنتها التسعة عشر ؟ قال الرازي : إثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافى حصول الارتياب بعد ذلك، فالمقصود من إعادة هذا الكلام، هو إنه حصل لهم يقين جازم، بحيث لا يحصل عقبه البتة شك ولا ريب، وقد كان (ص) يعلم من حال قريش إنه متى أخبرهم بهذا العدد العجيب، فإنهم يستهزئون به ويضحكون منه، ولذلك بين تعالى الغاية من ذكر هذا الخبر أوضح بيان