[ لم يكن شيئا مذكورا ] أي كان في العدم، لم يكن له ذكر ولا وجود، قال ابن كثير : يخبر تعالى عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئا يذكر، لحقارته وضعفه قال المفسرون :[ هل أتى ] بمعنى قد أتى كما تقول : هل رأيت صنيع فلان، وقد علمت أنه قد رآه، وتقول : هل أكرمتك، هل وعظتك ؟ ومقصودك أن تقرره بأنك قد أكرمته ووعظته، والمراد بالإنسان الجنس، وبالحين مدة لبثه في بطن أمه، والغرض من الآية تذكير الإنسان بأصل نشأته، فقد كان شيئا غائبا لا يفطن له، وكان في العدم جرثومة في صلب أبيه، وماء مهينا لا يعلم به، إلا خالقه، ومر عليه حين من الدهر كان الكوكب الأرضى خاليا منه، ثم خلقه الله، وأبدع تكوينه وإنشاءه، بعد أن كان مغمورا ومنسيا لا يعلم به أحد.. وبعد أن قرر تعالى أن الإنسان مر عليه وقت لم يكن موجودا، أخذ يشرح كيف أفاض عليه نعمة الوجود، واختبره بالتكاليف الشرعية، بعد أن متعه بنعمة العقل والحواس فقال سبحانه :
[ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ] أي نحن بقدرتنا خلقنا هذا الإنسان من ماء مهين - وهو المنى - الذي ينطف من صلب الرجل، ويختلط بماء المرأة " البويضة الأنثوية " فيتكون منهما هذا المخلوق العجيب، قال ابن عباس :[ أمشاج ] يعني أخلاط، وهو ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، ومن حال إلى حال
[ نبتليه ] أي لنختبره بالتكاليف الشرعية، والأوامر الإلهية، لننظر أيشكر أم يكفر ؟ وهل يستقيم في سيره، ام ينحرف ويزيغ ؟
[ فجعلناه سميعا بصيرا ] أي فجعلناه من أجل ذلك عاقلا مميزا، ذا سمع وبصر، ليسمع الآيات التنزيلية، ويبصر الدلائل الكونية، على وجود الخالق الحكيم، قال الإمام الفخر : أعطاه تعالى ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز، كما قال تعالى حاكيا عن إبراهيم [ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ] ؟ وقد يراد بهما الحاستان المعروفتان، وخصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها
[ إنا هديناه السبيل ] أي بينا للإنسان وعرفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر، ببعثة الرسل، وإنزال الكتب ! ! أخبر تعالى أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة، بين له سبيل الهدى والضلال، ومنحه العقل وترك له حرية الاختيار، ثم هو بعد ذلك إما أن يشكر، أو يكفر، ولهذا قال بعده :
[ إما شاكرا وإما كفورا ] أي إما أن يكون مؤمنا شاكرا لنعمة الله، فيسلك سبيل الخير والطاعة، وإما أن يكون شقيا فاجرا، فيكفر بنعمة الله، ويسلك سبيل الشر والفجور، قال المفسرون : المراد هديناه السبيل ليكون إما شاكرا وإما كفورا، فالله تعالى دل الإنسان على سبيل الشكر والكفر، وعلى الإنسان أن يختار سلوك هذا أو ذاك، وهذه الآية من جملة الآيات الكثيرة الدالة على أن للإنسان إرادة واختيارا هما مناط التكليف، كقوله تعالى :[ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء ] إلى قوله [ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها ] وكقوله :[ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ] فلا إكراه لأحد ولا إجبار، وإنما الأمر بمحض الإرادة والاختيار.. ثم بعد هذا البيان الواضح، بين ما أعده للأبرار والفجار في دار القرار، فقال سبحانه :
[ إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا ] أي هيأنا للكافرين المجرمين قيودا، تشد بها أرجلهم، وأغلالا تغل بها أيديهم إلى أعناقهم، وسعيرا أي نارا موقدة مستعرة يحرقون بها، كقوله تعالى :[ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون فى الحميم ثم فى النار يسجرون ]


الصفحة التالية
Icon