[ وتكون الجبال كالعهن المنفوش ] هذا هو الوصف الثاني من صفات ذلك اليوم المهول، أي وتصير الجبال كالصوف المنتثر المتطاير، تتفرق أجزاؤها وتتطاير في الجو، حتى تكون كالصوف المتطاير عند الندف، قال الصاوي : وإنما جمع بين حال الناس وحال الجبال، تنبيها على أن تلك القارعة أثرت في الجبال العظيمة الصلبة، حتى تصير كالصوف المندوف مع كونها غير مكلفة، فكيف حال الإنسان الضيف ؟ المقصود بالتكليف والحساب ! ا ثم ذكر تعالى حالة الناس في ذلك اليوم المخيف، وإنقسامهم إلى شقي وسعيد فقال
[ فأما من ثقلت موازينه ] أي رجحت موازين حسناته، وزادت حسناته على سيئاته
[ فهو في عيشة راضية ] أي فهو في عيش هني رغيد سعيد، في جنان الخلد والنعيم
[ وأما من خفت موازينه ] أي نقصت حسناته عن سيئاته، أو لم يكن له حسنات يعتد بها
[ فأمه هاوية ] أي فمسكنه ومصيره نار جهنم، يهوي في قعرها، سماها أما لأن الأم مأوى الولد ومفزعه، فنار جهنم تؤوي هؤلاء المجرمين، كما يأوي الأولاد إلي أمهم، وتضمهم إليها كما تضم الأم الأولاد إليها، قال أبو السعود :[ هاوية ] إسم من أسماء النار، سميت بها لغاية عمقها وبعد مهواها، روي أن أهل النار يهوون فيها سبعين خريفا (( ونقل عن قتادة أن المراد بقوله :﴿فأمه هاوية﴾ أي فأم رأسه هاوية في قعر جهنم لأنه يطرح فيها منكوسا، والأول اظهر )).
[ وما أدراك ماهيه ] ؟ استفهام للتفخيم والتهويل، أي وما أعلمك ما الهاوية ؟ ثم فسرها بقوله
[ نار حامية ] أي هي نار شديدة الحرارة، قد خرجت عن الحد المعهود، فإن حرارة أي نار إذا سعرت وألقي فيها أعظم الوقود، لا تعادل جزءا من حرارة جهنم، أجارنا الله منها بفضله وكرمه.
البلاغه :
تضمنت السورة الكريمة وجوها من البديع والبيان نوجزها فيما يلي :
١- الاستفهام للتفخيم والتهويل [ وما أدراك ما القارعة ] ؟ [ وما أدراك ما هيه ] ؟ قصد به تهويل أمرها، وتفخيم شأنها
٢- وضع الظاهر مكان الضمير للتخويف [ القارعة ما القارعة ] ؟ والأصل أن يقال : القارعة ما هي ؟
٣- التشبيه المرسل المجمل [ يكون الناس كالفراش المبثوث ] ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه أي في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، ومثله [ كالعهن المنفوش ] أي في تطايرها وخفة سيرها فيسمى مرسلا مجملا.
٤- المقابلة اللطيفة بين قوله [ فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ] قابلها بقوله [ وأما من خفت موازيه فأمه هاوية ] وهو من المحسنات البديعية.
٥- المجاز العقلي [ فهو في عيشة راضية ] أي راض بها صاحبها، ففيه إسناد مجازي يدرك بالعقل، لأن العيش أمر معنوي لا رأي له ولا تفكير
٦- الاحتباك وهو أن يحذف في كل نظير ما أثبته في الآخر، فقوله تعالى [ فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية ] حذف من الأول " فأمه الجنة " وذكر فيها [ عيشة راضية ] وحذف من الآية الثانية " فهو في عيشة ساخطة " وذكر [ فأمه هاوية ] فحذف من كل نظير ما أثبته في الآخر، وهو من المحسنات البديعية كذلك.
٧- توافق الفواصل في الحرف الأخير، وهو واضح في السورة الكربمة.
تنبيه :
الجمهور على أن الميزان حقيقي له كفتان ولسان، توزن فيه الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات، وروي عن ابن عباس أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة، وبالأعمال السيئة على صور قبيحة، فتوضع في الميزان، فمن رجحت حسناته سعد، ومن رجحت سيئاته شقي، والله أعلم.