[ إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ] أي عرضنا الفرائض والتكاليف الشرعية، على السموات والأرض والجبال الراسيات، فأعرضن عن حملها، وخفن من ثقلها وشدتها، والغرض تصوير عظم الأمانة وثقل حملها، والمعنى : إن تلك الأمانة في عظم الشأن، بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام - التي هي مثل في القوة والشدة - وكانت ذا شعور لإدراك على مراعاتها، لأبين قبولها وأشفقن منها وقال ابن جزى : الأمانة هي التكاليف الشرعية من إلتزام الطاعات، وترك المعاصي، وقيل : هي الأمانة في الأموال، والصحيح العموم في التكاليف، وعرضها يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون الله خلق. لها إدراكا، فعرضت عليها الأمانة حقيقة، فأشفقت منها وامتنعت من حملها، والثاني : أن يكون المراد تعظيم شأن الأمانة، وأنها من الثفل بحيث لو عرضت على السموات والأرض والجبال، لأبين من حملها وأشفقن منها، فهذا ضرب من المجاز كقولك : عرضت الحمل العظيم على الدابة فأبت أن تحمله، والمراد أنها لا تقدر على حمله
[ وحملها الإنسان أنه كان ظلوما جهولا ] أي وتحملها الإنسان إنه كأن شديد الظلم لنفسه، مبالغا في الجهل بعواقب الأمور، قال ابن الجوزي : لم يرد بقوله :(أبين ) المخالفة، وإنما أبين للخشية والمخافة، لأن العرض كان تخييرا لا إلزاما
[ ليعذب الله المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات ] قال ابن كثير : أي إنما حمل بني آدم الأمانة، وهي التكاليف الشرعية، ليعذب الله المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، والمشركين الذين ظاهرهم وباطنهم على الكفر
[ ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات ] أي ويرحم أهل الإيمان، ويعود عليهم بالتوبة والمغفرة والرضوان
[ وكان الله غفورا رحيما ] أي واسع المغفرة للمؤمنين حيث عفا عما سلف منهم، رحيما بهم حيث أثابهم وأكرمهم بأنواع الكرامات !
البلاغة :
تضمنت الآيات الكريمة وجوها من البيان والبديع نوجزها فيما يلي :
١ - الإضافة للتشريف [ لا تدخلوا بيوت النبي ] لأنها لما نسبت للنبي تشرفت بالإضافة إليه.
٢- الطباق بين [ ادخلوا.. وانتشروا ] وبين [ تبدوا.. وتخفوا ] وبين [ ثقفوا.. وأخذوا ].
٣ - طباق السلب [ فيستحيي منكم، والله لا يستحي من الحق ].
٤ - ذكر الخاص بعد العام [ لئن لم ينته المنافقون.. والمرجفون ] والمرجفون هم من المنافقين، فعمم ثم خضص، زيادة في التقبيح والتشنيع عليهم.
٥ - ذكر اللفظ بصيغة " فعول " و " فعيل " للمبالغة مثل [ إنه كان ظلوما جهولا ] [ بكل شيء عليما ] [ على كل شيء شهيدا ] إلخ.
٦ - الإتيان بالمصدر مع الفعل للتأكيد [ وقتلوا تقتيلا ] [ وسلموا تسليما ].
٧ - التحسر والتفجع بطريق التمني [ يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول ].
٨ - التشبيه [ لا تكونوا كالذين آذوا موسى ] ويسمى التشبيه المرسل المجمل.
٩ - الاستعارة التمثيلية [ إنا عرضنا الإهانة على السموات والأرض والجبال ] مثل للأمانة في ضخامتها وعظمها، وتفخيم شأنها، بأنها من الثقل بحيث لو عرضت على السموات والأرض والجبال وهي من القوة والشدة بأعلى المنازل لأبت عن حملها وأشفقت منها، وهو تمثيل رائع لتهويل شأن الأمانة.
١٠ - المقابلة اللطيفة بين [ ليعذب الله المنافقين والمنافقات ] وبين [ ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات ] وفي ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع ة رد العجز على الصدر لأن بدء السورة كان في ذم المنافقين، وختامها كان فى بيان سوء عاقبة المنافقين، فحسن الكلام فى البدء والختام.