[ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ] أي ثم أورثنا هذا القرآن العظيم لأفضل الأمم - وهم أمة محمد عليه السلام - الذين اخترناهم على سائر الأمم، وخصصناهم بهذا الفضل العظيم، القرآن المعجز خاتمة الكتب السماوية، قال الزمخشري : والذين اصطفاهم الله هم أمة محمد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة.. ثم قسمهم إلى ثلالة أصناف فقال :
[ فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ] أي فمن هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب، من هو مقصر في عمل الخير، يتلو القرآن ولا يعمل به وهو (الظالم لنفسه )، ومنهم من هو متوسط في فعل الخيرات والصالحات، يعمل بالقرآن في أغلب الأوقات، ويقصر في بعض الفترات وهو (المقتصد)، ومنهم من هو سباق في العمل بكتاب الله، يستبق الخيرات، وقد أحرز قصب السبق في فعل الطاعات، بتوفيق الله وليسيره وهو (السابق بالخيرات ) بإذن الله، قال ابن جزي : وأكثر المفسرين أن هذه الأصناف الثلاثة فى أمة محمد (ص) فالظالم لنفسه : العاصي، والسابق : التقى، والمقتصد : بينهما وقال الحسن البصري : السابق من رجحت حسناته على سيئاته، والظالم لنفسه من رجحت سيئاته، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، وجميعهم يدخلون الجنة (( والقول بأن هذه الأصناف الثلاثة من أمة محمد (ص) هو الراجح وهو اختيار ابن جرير وقد أورد العلامة ابن كثير أحاديث تدل على ذلك ))
[ ذلك هو الفضل الكبير ] أي ذلك الإرث والاصطفاء لأمة محمد عليه السلام، لحمل أشرف الرسالات والكتب السماوية، هو الفضل العظيم الذي لا يدانيه فضل ولا شرف، فقد تفضل الله عليهم بهذا القرآن المجهيد، الباقي مدى الدهر، وأنعم به من فضل ثم أخبر تعالى عما أعده للمؤمنين في جنات النعيم، فقال سبحانه :
[ جنات عدن يدخلونها ] أي جنات إقامة ينعمون فيها بأنواع النعيم، وهي مراتب ودرجات متفاوتة، حسب تفاوت الأعمال، وإنما جمع [ الجنات ] لأنها جنات كثيرة وليست جنة واحدة، فهناك جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة السلام، وجنة عليين، وفي كل جنة مراتب ونزل بحسب مراتب العاملين
[ يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ] أي يزينون في الجنة بأساور من ذهب مرضعة باللؤلؤ
[ ولباسهم فيها حرير ] أي وجميع ما يلبسونه في الجنة من الحرير، بل فرشهم وستورهم كذلك، قال القرطبي : لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان، جعل الله ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجنة، إلا في يده ثلاثة أسورة : سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ
[ وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ] أي وقالوا عند دخولهم الجنة : الحمد لله الذي أذهب عنا جميع الهموم والأكدار وللأحزلن، قال المفسرون : عبر بالماضي [ وقالوا ] لتحقق وقوعه، والحزن يعم كل ما يكدر صفو الإنسان، من خوف المرض، والفقر، والموت، وأهوال القيامة، وعذاب النار، وغير ذلك
[ إن ربنا لغفور شكور ] أي واسع المغفرة للمذنبين، شكور لطاعة المطيعين، وكلا اللفظتين للمبالغة أي واسع الغفران عظيم الشكر والإحسان
[ الذى أحلنا دار المقامة من فضله ] أي أنزلنا الجنة وأسكننا فيها، وجعلها مقرا لنا وسكنا، لا نتحول عنها أبدا، وكل ذلك من إنعامه وتفضله علينا
[ لا يمسنا فيها نصب ] أي لا يصيبنا فيها تعب ولا مشقة
[ ولا يمسنا فيها لغوب ] أي ولا يصيبنا فيها إعياء ولا فتور، قال ابن جزي : وإنما سميت الجنة [ دار المقامة ] لأنهم يقومون فيها ويمكثون ولا يخرجون منها، والنصب تعب البدن، واآللغوب تعب النفس الناشىء عن تعب البدن. ولما ذكر تعالى حال السعداء الأبرار، ذكر حال الأشقياء الفجار فقال :


الصفحة التالية
Icon