[ والقرآن الحكيم ] قسم من الله تعالى بالقرآن، و(الحكيم ) معناه المحكم، الذي لا يلحقه تغيير ولا تبديل، ولا يعتريه تناقض أو بطلان قال القرطبي : أحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل وقال ابو السعود : أي المتضمن للحكمة أو الناطق بالحكمة، من حيث نظمه المعجز، المنطوي على بدائع الحكم.. والخلاصة فقد أقسم تعالى بهذا الكتاب المحكم، المعجز في نظمه، وبديع معانيه، المتقن في تشريعه وأحكامه، الذي بلغ أعلى طبقات البلاغة، على أن محمدا رسوله، وفي هذا القسم من التعظيم والتفخيم لشأن الرسول ما فيه
[ إنك لمن المرسلين ] جواب القسم أي إنك يا محمد لمن المرسلين، من رب العالمين لهداية الخلق، قال ابن عباس : قالت كفار قريش : لست يا محمد مرسلا، وما أرسلك الله إلينا، فأقسم الله بالقرآن العظيم المحكم، إن محمدا (ص) من المرسلين
[ على صراط مستقيم ] أي على طريق ونهج مستقيم، لا إنحراف فيه ولا إعوجاج، هو الإسلام دين الرسل قبلك، الذين جاءوا بالإيمان والتوحيد قال الطبرى : أي على طريق لا إعوجاج فيه من الهدى وهو الإسلام كما قال قتادة، والتنكير للتفخيم والتعظيم
[ تنزيل العزيز الرحيم ] أي هذا القرآن الهادي المنير، تنزيل من رب العزة جل وعلا، العزيز في ملكه، الرحيم بخلقه
[ لتنذر قوما ما أنذر أباؤهم ] أي لتنذر يا محمد بهذا القرآن العرب، الذين ما جاءهم رسول ولا كتاب، لتطاول زمن الفترة عليهم، والمراد بالإنذار تخويفهم من عذاب الله
[ فهم غافلون ] أي فهم بسبب ذلك غافلون عن الهدى والإيمان، يتخبطون في ظلمات الشرك وعبادة الأوثان.. ثم بين تعالى إستحقاقهم للعذاب بإصرارهم على الكفر والتكذيب، فقال سبحانه
[ لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ] اللام موطئة للقسم، أي والله لقد وجب عذاب النار على أكثر هؤلاء المشركين، بسبب إصرارهم على الكفر والإنكار، وعدم تأثرهم بالتذكير والإنذار، فهم لذلك لا يؤمنون بما جئتهم به يا محمد.. ثم بين تعالى سبب تركهم الإيمان فقال
[ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ] تمثيل وتصوير لحال المشركين في ضلالهم، بحال الذي جعل في يده غل وجمعت يده إلى عنقه، فبقي رافعا رأسه لا يخفضه قال في الجلالين : وهذا تمثيل والمراد أنهم لا يذعنون للإيمان، ولا يخفضون رءوسهم لة قال ابن كثير : ومعنى الآية : إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء، كمن جعل في عنقه غل، وجمعت يداه مع عنقه تحت ذقنه، فإرتفع رأسه فصار مقمحا، والمقمح هو الرافع رأسه، وإكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين، لأن الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق وقال ابو السعود : مثل حالهم بحال الذين غلت أعناقهم [ فهى إلى الإذقان ] أي فالأغلال منتهية إلى أذقانهم، فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطاطئون رءوسهم، غاضون أبصارهم، بحيث لا يكادون يرون الحق، أو ينظرون إلى جهته
[ وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ] هذا تتمة للتمثيل وتكميل له، أي وجعلنا من أمامهم سدا عظيما، ومن ورائهم سدا كذلك
[ فأغشيناهم فهم لا يبصرون ] أي فغطينا بهما أبصارهم، فهم بسبب ذلك لا يبصرون شيئا أصلا، لأنهم أصبحوا محصورين بين سدين هائلين، وهذا بيان لكمال فظاعة حالهم، وكونهم محبوسين في مطمورة الغى والجهالات، محرومين عن النظر في الأدلة والآيات، قال المفسرون : وهذا كله تمثيل لسد طرق الإيمان عليهم، بمن سدت عليه الطرق فهو لا يهتدي لمقصوده