و قيل : انه جعل للملام ماء وذلك تشبيه بعيد وما بهذا التشبيه عندي من بأس بل هو من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم وهو قريب من وجه، بعيد من وجه، أما سبب قربه فهو ان الملام هو القول الذي يعنف به الملوم لأمر جناه وذاك مختص بالسمع فنقله أبو تمام إلى السقيا التي هي مختصة بالحلق كأنه قال لا تذقني الملام ولو تهيأ له ذلك مع وزن الشعر لكان تنبيها حسنا ولكنه جاء بذكر الماء فحط من درجته شيئا ولما كان السمع يتجرع الماء أولا كتجرع الحلق الماء صار كأنه شبيه به وهو تشبيه معنى بصورة. وأما سبب بعد هذا التشبيه فهو أن الماء مستلذّ والملام مستكره فحصل بينهما مخالفة من هذا الوجه فهذا التشبيه إن بعد من وجه فقد قرب من وجه فيغفر هذا لهذا ولذلك جعلته من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم، وقد روي أن بعض أهل المجانة أرسل إلى أبي تمام قارورة وقال : ابعث في هذه شيئا من ماء الملام فأرسل اليه أبو تمام وقال : إذا بعثت إليّ ريشة من جناح الذل بعثت إليك شيئا من ماء الملام، وما كان أبو تمام ليذهب عليه الفرق بين هذين التشبيهين فانه ليس جعل الجناح للذل كجعله الماء للملام، فإن الجناح للذل مناسب وذاك أن الطائر إذا وهن أو تعب بسط جناحه وخفضه وألقى نفسه على الأرض وللانسان أيضا جناح فإن يديه جناحاه وإذا خضع واستكان طأطأ من رأسه وخفض
إعراب القرآن وبيانه، ج ٥، ص : ٤١٦
من يديه فحسن عند ذلك جعل الجناح للذل وصار تشبيها مناسبا وأما الماء للملام فليس كذلك في مناسبة التشبيه ».
هذا ما أورده الصولي وابن الأثير وقد عقب عليهما كثير من نقاد القرن الرابع الهجري ووفقوا منهما بين مؤيد ومعاكس فأخذ الآمدي برأي الصولي في كتابه الموازنة ولكن على أساس آخر من الفهم وعاب على أبي تمام استعماله استعارات شبيهة بماء الملام قال :« فمن مرذول ألفاظه وقبيح استعاراته قوله :


الصفحة التالية
Icon