و هو بين الراكبين وهو جدير بأن ينهمك بأمر نفسه وما هو مقدم عليه من سوء المصير وإنما حمله على المبادرة بالإنكار الالتهاب والحمية للحق فنسي نفسه واشتغل بغيره في الحالة التي يقول فيها كل واحد : نفسي نفسي، ولا يلوي على مال ولا ولد وتلك حالة الغرق تذهل فيها العقول وتغرب الأحلام ويضيع الرشد من الألباب.
٢- التورية في قوله « قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ »
أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان لإيهامه بأنه قد نسي ليبسط عذره في الإنكار وبعضهم يسمي هذا النوع من معاريض الكلام، والمعاريض جمع معراض وهو هنا إيهام خلاف المراد لئلا يلزم الكذب وهو فن ظريف من فنونهم ولعله أجمل أنواع التورية التي سبق ذكرها وقد كان المتنبي يجنح إليه في قصائده وخاصة الكافوريات قال :
برغم شبيب فارق السيف كفه وكانا على العلات يصطحبان
كأن رقاب الناس قالت لسيفه رفيقك قيسي وأنت يمان
إعراب القرآن وبيانه، ج ٦، ص : ١٣
فشبيب هذا خارجي خرج على كافور الإخشيدي وقصد دمشق وحاصرها فيقال أن امرأة ألقت عليه رحى فصرعته فانهزم الذين كانوا معه لما مات، ويقال إنه أكثر من شرب الخمر فحدث به صرع ففي ساعة القتال أتته نوبة الصرع فتركه أصحابه ومضوا فأخذه أهل دمشق وقتلوه وقد كان شبيب هذا من قيس ولم تزل بين قيس واليمن عداوات وحروب وأخبار ذلك مشهورة والسيف يقال له « يماني » في نسبته الى اليمن ومراد المتنبي من هذا البيت أن شبيبا لما قتل وفارق السيف كفه فكأن الناس قالوا لسيفه أنت يماني وصاحبك قيسي ولهذا جانبه السيف وفارقه وهذه مغالطة حسنة.
و من معاريض الكلام الحسنة قول أبي العلاء المعري في وصف الإبل :
صلب العصا بضرب قد دمّاها تود أن الله قد أفناها
إذا أرادت رشدا أغواها محاله من رقه إياها