٤- وأخيرا تعجب من أن الشاعر يطرق في الأدب العربي فنا جديدا لم يطرقه أحد من قبله وهو رثاء الممالك الزائلة والآثار الباقية، ولم يشر إليه قبل القرآن أحد فيقول اللّه تعالى « أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى ».
و ننتقل الى عينية أبي الطيب المتنبي وهي القصيدة التي رثى بها أبا شجاع فاتك وفيها تحدث عن شعور الإنسان حيال الآثار المتخلفة عن أصحابها فقال منها :
إني لأجبن عن فراق أحبتي وتحسّ نفسي بالحمام فأشجع
و يزيدني غضب الأعادي قسوة ويلمّ بي عتب الصديق فأجزع
تصفو الحياة لجاهل أو غافل عما مضى فيها وما يتوقع
و لمن يغالط في الحقائق نفسه ويسومها طلب المحال فتطمع
أين الذي الهرمان من بنيانه ما قومه ما يومه؟ ما المصرع
إعراب القرآن وبيانه، ج ٦، ص : ٢٧٥
تتخلّف الآثار عن أصحابها حينا ويدركها الفناء فتتبع
و يظهر أن أبا الطيب كان يحب القائد فاتكا أبا شجاع حبا خالصا قائما على الاعجاب فهو يرثيه بقصيدتين يجعل منهما وسيلة إلى الإبانة عما في نفسه من هموم ومحن وترى من خلالهما بعض النظرات الفلسفية فهو كما ترى يرى الحياة لا تصفو إلا للجاهل أو الغافل أما الشجاع الأبي فقلما تخطئه سهامها ونراه هنا معاني مظلمة قاتمة في نفسه حتى ليكاد يلقي سلاحه أمام عوادي الزمان لو لا بقية من قوة يستمسك بها :
المجد أخسر والمكارم صفقة من أن يعيش لها الهمام الأروع
و الناس أنزل في مكانك منزلا من أن تعايشهم وقدرك أرفع


الصفحة التالية
Icon