و هنا موضع دقيق المسلك لطيف المرمى قلما ينتبه إليه أحد أو بتفطن إليه كاتب، فإن أكثر الناس يضعون حروف العطف في غير مواضعها فيجعلون ما ينبغي أن يجر ب « على » ب « في » في حروف الجر، كما أنهم يعطفون دون أن يتفطنوا الى سر الحرف الذي عطف به الكلام فقد قال تعالى « و الذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين » فالأول عطفه بالواو التي هي لمطلق الجمع وتقديم الإطعام على الإسقاء، والإسقاء على الإطعام جائز لولا مراعاة حسن النظم، ثم عطف الثاني بالفاء لأن الشفاء يعقب المرض بلا زمان خال من أحدهما، ثم عطف الثالث بثم لأن الإحياء يكون بعد الموت بزمان ولهذا جي ء في عطفه بثم التي هي للتراخي. وهذا من الأسرار التي يجدر بالكاتب الإلمام بها حتى يقيس عليها ويعطف على كل بما يناسبه ويقع موقع السداد منه.
إعراب القرآن وبيانه، ج ٧، ص : ٩١
٤- التفويف :
و لم يسبق أن تحدثنا فيما غبر من كتابنا عن هذا الفن وهو إتيان المتكلم بمعان شتى من المدح والوصف والنسيب وغير ذلك من الفنون، كل فن في جملة منفصلة من أختها بالسجع غالبا مع تساوى الجمل في الرنّة، ويكون بالجمل الطويلة والجمل المتوسطة والجمل القصيرة، فمثال المركب من الجمل الطويلة :« الذي خلقني فهو يهدين » إلى قوله « و ألحقني بالصالحين » ففي هذه الآيات فنون شتى منها :
آ- المناسبة :
في قوله :« خلقني » و « يطعمني ».
ب- التنكيت :
في قوله :« و إذا مرضت فهو يشفين » فإن النكتة التي أوجبت على الخليل إسناد فعل المرض الى نفسه دون بقية الأفعال حسن الأدب مع ربه عز وجل إذ أسند إليه أفعال الخير كلها وأسند فعل الشر الى نفسه وللاشارة الى أن كثيرا من الأمراض تحدث بتفريط الإنسان في مأكله ومشربه وغير ذلك.
ج- حسن النسق :


الصفحة التالية
Icon