في قوله تعالى :« إن خير من استأجرت القوي الأمين » في هذه الآية فنون عديدة ولذلك أطلق عليها علماء البلاغة أنها من الكلام الجامع المانع الحكيم الذي لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان في القائم بأمرك والمتعهد لشئونك وهما الكفاية والأمانة فقد فرغ بالك وتم أمرك وسهل مرادك، ولأنه ذهب مذهب المثل المضروب ليذهب في مرّ العصور وقادمات الدهور، وفيه التعميم
إعراب القرآن وبيانه، ج ٧، ص : ٣٠٩
الذي هو أجمل وأليق في مدح النساء للرجال من المدح الخاص وأبقى للتحشم والتصوّن وخصوصا بعد أن فهمت غرض أبيها وهو تزويجها منه وقد كان عمر بن الخطاب يعجب بهذا التعبير ويرمق سماءه في دعائه فيقول :« أشكو الى اللّه ضعف الأمين وخيانة القوي ».
و هذا الإيهام من ابنة شعيب قد سلكته زليخا مع يوسف ولكن شتان ما بين الحياء المجبول والحياء المستعمل، ليس التكحل في العينين كالكحل حيث قالت :« ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم » وهي تعني ما جزاء يوسف مما أرادني من السوء إلا أن تسجنه أو تعذبه عذابا أليما، ولكنها أو همت زوجها الحياء والخفر وأن تنطق بالعصمة منسوبا إليها الخنا إيذانا منها بأن هذا الحياء منها الذي يمنعها أن تنطق بهذا الأمر من مراودة يوسف بطريق الأحرى والأولى، ففي هذه الآية كما رأيت الإيجاز والمثل والتعميم والإيهام وفيها أيضا التقديم فقد قدم ما هو أولى بالتقديم وجعل اسما ل « إن » وهو خير وورد بلفظ الفعل الماضي للدلالة على أن الأمر ليس بدعا وانه معروف مبتوت فيه قد جرب وتعورف. ومن التقديم البديع قول أبي الشغب العبسي يتحزّن على خالد بن عبد اللّه القسري حين أسره يوسف بن عمرو.
ألا إن خير الناس حيا وهالكا أسير ثقيف عندهم في السلاسل
لعمري لئن عمرتم السجن خالدا وأوطأتموه وطأة المتثاقل
إعراب القرآن وبيانه، ج ٧، ص : ٣١٠


الصفحة التالية
Icon