والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك، وهل التقوى تتناول اجتناب الصغائر ؟ في ذلك خلاف. وجوز بعضهم أن يكون التقدير هدى للمتقين والكافرين، فحذف لدلالة أحد الفريقين، وخص المتقين بالذكر تشريفاً لهم. ومضمون هذه الجملة على ما اخترناه من الإعراب، الإخبار عن المشار إليه الذي هو الطريق الموصل إلى الله تعالى، هو الكتاب أي الكامل في الكتب، وهو المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي قال فيه ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـابِ مِن شَىْءٍ ﴾، فإذا كان جميع الأشياء فيه، فلا كتاب أكمل منه، وأنه نفى أن يكون فيه ريب وأنه فيه الهدى. ففي الآية الأولى الإتيان بالجملة كاملة الأجزاء حقيقة لا مجاز فيها، وفي الثانية مجازاً لحذف لأنا اخترنا حذف الخبر بعد لا ريب، وفي الثانية تنزيل المعاني منزلة الأجسام، إذ جعل القرآن ظرفاً والهدى مظروفاً، فألحق المعنى بالعين، وأتى بلفظة في التي تدل على الوعاء كأنه مشتمل على الهدى ومحتو عليه احتواء البيت على زيد في قولك : زيد في البيت :﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ : الإيمان : التصديق، ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾، وأصله من الأمن أو الأمانة، ومعناهما الطمأنينة، منه : صدقة، وأمن به : وثق به، والهمزة في أمن للصيرورة كأعشب، أو لمطاوعة فعل كأكب، وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء، وهو يتعدى بالباء واللام ﴿فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَى ﴾، والتعدية باللام في ضمنها تعد بالباء، فهذا فرق ما بين التعديتين. الغيب : مصدر غاب يغيب إذا توارى، وسمى المطمئن من الأرض غيباً لذلك أو فعيل من غاب فأصله غيب، وخفف نحو لين في لين، والفارسي لا يرى ذلك قياساً في ذوات الياء، فلا يجيز في لين التخفيف ويجيزه في ذوات الواو، ونحو : سيد وميت، وغيره قاسه فيهما. وابن مالك وافق أبا علي في ذوات الياء. وخالف الفارسي في ذوات الواو، فزعم أنه محفوظ لا مقيس، وتقرير هذا في علم التصريف. ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ﴾ والإقامة : التقويم، أقام العود قومه، أو الأدامة أقامت الغزالة سوق الضراب، أي أدامتها من قامت السوق، أو التشمر والنهوض من قام بالأمر، والهمزة في أقام للتعدية. الصلاة : فعلة، وأصله الواو لاشتقاقه من الصلى، وهو عرق متصل بالظهر يفترق من عند عجب الذنب، ويمتد منه عرقان في كل ورك، عرق يقال لهما الصلوان فإذا ركع المصلي انحنى صلاة وتحرك فسمي بذلك مصلياً، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل لأنه يأتي مع صلوى السابق. قال ابن عطية : فاشتقت الصلاة منه إما لأنها جاءت ثانية الإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل، وإما لأن الراكع والساجد ينثني صلواه، والصلاة حقيقة شرعية تنتظم من أقوال وهيئآت مخصوصة، وصلى فعل الصلاة، وأما صلى دعا فمجاز وعلاقته تشبيه الداعي في التخشع والرغبة بفاعل الصلاة، وجعل ابن عطية الصلاة مما أخذ من صلى بمعنى دعا، كما قال :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٢
عليك مثل الذي صليت فاغتمضينوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً
وقال :
لها حارس لا يبرح الدهر بيتهاوإن ذبحت صلى عليها وزمزما
قال : فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء، وانضاف إليه هيئآت وقراءة، سمى جميع ذلك باسم الدعاء والقول إنها من الدعاء أحسن، انتهى كلامه. وقد ذكر أن ذلك مجاز عندنا، وذكرنا العلاقة بين الداعي وفاعل الصلاة، ومن حرف جر. وزعم الكسائي أن أصلها منا مستدلاً بقول بعض قضاعة :
بذلنا مارن الخطى فيهموكل مهند ذكر حسام
منا أن ذر قرن الشمس حتىأغاب شريدهم قتر الظلام
٣٨
وتأول ابن جني، رحمه الله، على أنه مصدر على فعل من منى بمنى أي قدر. واغتر بعضهم بهذا البيت فقال : وقد يقال منا. وقد تكون لابتداء الغاية وللتبعيض، وزائدة وزيد لبيان الجنس، وللتعليل، وللبدل، وللمجاوزة والاستعلاء، ولانتهاء الغاية، وللفصل، ولموافقة في مثل ذلك : سرت من البصرة إلى الكوفة، أكلت من الرغيف، ما قام من رجل، ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾، ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ﴾، ﴿يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا﴾، ﴿غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾، قربت منه، ﴿وَنَصَرْنَـاهُ مِنَ الْقَوْمِ﴾، ﴿يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ ﴿يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ ﴾ ﴿مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الارْضِ﴾. ما تكون موصولة، واستفهامية، وشرطية، وموصوفة، وصفة، وتامة. مثل ذلك :﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ﴾ مال هذا الرسول، ﴿مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ﴾، مررت بما معجب لك، لأمر ما جدع قصير أنفه، ما أحسن زيداً. ﴿رَزَقْنَـاهُمْ﴾ الرزق : العطاء، وهو الشيء الذي يرزق كالطحن، والرزق المصدر، وقيل الرزق أيضاً مصدر رزقته أعطيته، ﴿وَمَن رَّزَقْنَـاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا﴾، وقال :
رزقت مالاً ولم ترزق منافعهإن الشقي هو المحروم ما رزقا