وبالآخرة : تقدم أن المعنى بها الدار الآخرة للتصريح بالموصوف في بعض الآي، وحمله بعضهم على النشأة الآخرة، إذ قد جاء أيضاً مصرحاً بهذا الموصوف، وكلاهما يدل على البعث. وأكد أمر الآخرة بتعلق الإيقان بها الذي هو أجلى وآكد مراتب العلم والتصديق، وإن كان في الحقيقة لا تفاوت في العلم والتصديق دفعاً لمجاز إطلاق العلم، ويراد به الظن، فذكر أن الإيمان والعلم بالآخرة لا يكون إلا إيقاناً لا يخالطه شيء من الشك والارتياب. وغاير بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة في اللفظ لزوال كلفة لتكرار، وكان الإيقان هو الذي خص بالآخرة لكثرة غرائب متعلقات الآخرة، وما أعد فيها من الثواب والعقاب السرمديين، وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب، ونشأة أصحابها على خلاف النشأة الدنيوية ورؤية الله تعالى. فالآخرة أغرب في الإيمان بالغيب من الكتاب المنزل، فلذلك خص بلفظ الإيقان، ولأن المنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم مشاهد أو كالمشاهد، والآخرة غيب صرف، فناسب تعليق اليقين بما كان غيباً صرفاً. قالوا : والإيقان هو العلم الحادث سواء كان ضرورياً أو استدلالياً، فلذلك لا يوصف به الباري تعالى، ليس من صفاته الموقن وقدم المجرور اعتناء به ولتطابق الأواخر. وإيراد هذه الجملة إسمية وإن كانت الجملة معطوفة على جملة فعلية آكد في الإخبار عن هؤلاء بالإيقان، لأن قولك : ريد فعل آكد من فعل زيد لتكرار الإسم في الكلام بكونه مضمراً، وتصديره مبتدأ بشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه، كما أن التقديم للفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به. وذكر لفظة هم في قوله :﴿هُمْ يُوقِنُونَ﴾، ولم يذكر لفظة هم في قوله :﴿وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق، فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد، ولأنه لو ذكرهم هناك لكان فيه قلق لفظي، إذ كان يكون ومما رزقناهم هم ينفقون. أولئك : اسم إشارة
٤٢
للجمع يشترك فيه المذكر والمؤنث. والمشهور عند أصحابنا أنه للرتبة القصوى كأولالك، وقال بعضهم هو للرتبة الوسطى، قاسه على ذا حين لم يزيدوا في الوسطى عليه غيرحرف الخطاب، بخلاف أولالك. ويضعف قوله كون هاء التنبيه لا تدخل عليه. وكتبوه بالواو فرقاً بينه وبين إليك، وبنى لافتقاره إلى حاضر يشار إليه به، وحرك لالتقاء الساكنين، وبالكسر على أصل التقائهما. الفلاح : الفوز والظفر بإدراك البغية، أو البقاء، قيل : وأصله الشق والقطع :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٣٢
إن الحديد بالحديد يفلح
وفي تشاركه في معنى الشق مشاركة في الفاء والعين نحو : فلي وفلق وفلذ، تقدم في إعراب الذين يؤمنون بالغيب، إن من وجهي رفعه كونه مبتدأ، فعلى هذا يكون أولئك مع ما بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر الذين، ويجوز أن يكون بدلاً وعطف بيان، ويمتنع الوصف لكونه أعرف. ويكون خبر الذين إذ ذاك قوله :﴿عَلَى هُدًى﴾، وإن كان رفع الذين على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو كان مجروراً أو منصوباً، كان أولئك مبتدأ خبره ﴿عَلَى هُدًى﴾، وقد تقدم أنا لا نختار الوجه الأول لانفلاته مما قبله والذهاب به مذهب الاستئناف مع وضوح اتصاله بما قبله وتعلقه به، وأي فائدة للتكلف والتعسف في الاستئناف فيما هو ظاهر التعلق بما قبله والارتباط به. وقد وجه الزمخشري وجه الاستئناف بأنه لما ذكر أن الكتاب اختص المتقون بكونه هدى لهم، اتجه لسائل أن يقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك ؟ فأجيب بأن الذين جمعوا هذه الأوصاف الجليلة من الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق، والإيمان بالمنزل، والإيقان بالآخرة على هدى في العاجل، وذوو فلاح في الآجل. ثم مثل هذا الذي قرره من الاستئناف بقوله : أحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأنصار الذين قارعوا دونه، فكشفوا الكرب عن وجهه، أولئك أهل للمحبة، يعني أنه استأنف فابتدأ بصفة المتقين، كما استأنف بصفة الأنصار.
وعلى ما اخترناه من الاتصال يكون قد وصف المتقين بصفات مدح فضلت جهات التقوى، ثم أشار إليهم وأعلم بأن من حاز هذه الأوصاف الشريفة هو على هدى، وهو المفلح والاستعلاء الذي أفادته في قوله :﴿عَلَى هُدًى﴾، هو مجاز نزل المعنى منزلة العين، وأنهم لأجل ما تمكن رسوخهم في الهداية جعلوا كأنهم استعلوه كما تقول : فلان على الحق، وإنما حصل لهم هذا الاستقرار على الهدى بما اشتملوا عليه من الأوصاف المذكورة في وصف الهدى بأنه من ربهم، أي كائن من ربهم، تعظيم للهدى الذي هم عليه. ومناسبة ذكر الرب هنا واضحة، أي أنه لكونه ربهم بأي تفاسيره فسرت ناسب أن يهيىء لهم أسباب السعادتين : الدنيوية والأخروية، فجعلهم في الدنيا على هدى، ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. وقد تكون ثم صفة محذوفة أي على هدى، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز، وقد لا يحتاج إلى تقدير الصفة لأنه لا يكفي مطلق الهدى المنسوب إلى الله تعالى. ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف، أي من هدى ربهم.


الصفحة التالية
Icon