وذكروا أيضاً أن في هاتين الآيتين من ضروب الفصاحة أنواعاً. الأول : الخطاب العام اللفظ الخاص المعنى. الثاني : الاستفهام الذي يراد به تقرير المعنى في النفس، أي يتقرر أن الإنذار وعدمه سواء عندهم. ﴿عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾، وحقيقة الختم وضع محسوس على محسوس يحدث بينهما رقم يكون علامة للخاتم، والختم هنا معنوي، فإن القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره استعير له اسم المختوم عليه فبين أنه من مجاز الاستعارة. الرابع : الحذف، وهو في مواضع : منها : أن الذين كفروا، أي أن القوم الذين كفروا بالله وبك وبما جئت به. ومنها : لا يؤمنون بالله وبما أخبرتهم به عنه. ومنها : ختم الله على قلوبهم فلا تعي وعلى أسماعهم فلا تصغي. ومنها : وعلى أبصارهم غشاوة على من نصب، أي وجعل على أبصارهم غشاوة فلا يبصرون سبيل الهداية. ومنها : ولهم عذاب، أي ولهم يوم القيامة عذاب عظيم دائم، ويجوز أن يكون التقدير : ولهم عذاب عظيم في الدنيا بالقتل والسبي أو بالإذلال ووضع الجزية وفي الآخرة بالخلود في نار جهنم. الخامس : التعميم : وهو في قوله :﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، فإنه لو اقتصر على قوله عذاب ولم يقل عظيم لاحتمل القليل والكثير، فلما وصفه بالعظيم تمم المعنى وعلم أن العذاب الذي وعدوا به عظيم، إما في المقدار وإما في الإيلام والدوام. السادس : الإشارة، فإن قوله :﴿سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ﴾ إشارة إلى أن السواء الذي أضيف إليهم وباله ونكاله عليهم ومستعل فوقهم، لأنه لو أراد بيان أن ذلك من وصفهم فحسب لقال : سواء عندهم، فلما قال : سواء عليهم، نبه على أنه
٥٠
مستعل عليهم، فإن كلمة على للاستعلاء وهو الذي قاله هذا القائل من أن على تشعر بالاستعلاء صحيح، وأما أنها تدل على أن الكلام تضمن معنى الوبال والنكال عليهم فليس بصحيح، بل المعنى في قولك سواء عليك وعندك كذا وكذا واحد، وإن كان أكثر الاستعمال بعلى، قال تعالى :﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ﴾، ﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا﴾، سواء عليها رحلتي ومقامي، وكل هذا لا يدل على معنى الوبال والنكاح عليهم. السابع : مجاز التشبيه شبه قلوبهم لتأبيها عن الحق، وأسماعهم لإضرابها عن سماع داعي الفلاح، وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية بالوعاء المختوم عليه المسدود منافذة المغشي بغشاء يمنع أن يصل إليه ما يصلحه، لما كانت مع صحتها وقوة إدراكها ممنوعة عن قبول الخير وسماعه وتلمح نوره، وهذا كله من مجاز التشبيه، إذ الختم والغشاوة لم يوجدا حقيقة، وهو بالاستعارة أولى، إذ من شرط التشبيه أن يذكر المشبه والمشبه به.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٤
٥١
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾، الناس : اسم جمع لا واحد له من لفظه، ومرادفه : أناسي، جمع : إنسان أو إنسي. قد قالت العرب : ناس من الجن، حكاه ابن خالويه، وهو مجاز إذ أصله في بني آدم، ومادته عند سيبويه رحمه الله والفراء : همزة ونون وسين، وحذفت همزته شذوذاً، وأصله أناس ونطق بهذا الأصل، قال تعالى :﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسا بِإِمَـامِهِمْ﴾، فمادته ومادة الإنس واحدة. وذهب الكسائي إلى أن مادته نون وواو وسين، ووزنه فعل مشتق من النوس وهو الحركة، يقال : ناس ينوس نوساً إذا تحرك، والنوس : تذبذب الشيء في الهواء، ومنه نوس القرط في الأذن وذلك لكثرة حركته. وذهب قوم إلى أنه من نسي، وأصله نسي ثم قلب فصار نيس، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً فقيل : ناس، ثم دخلت الألف واللام. والكلام على هذا الأقوال مذكور في علم التصريف. من : موصولة، وشرطية، واستفهامية، ونكرة موصوفة، وتقع على ذي العلم، وتقع أيضاً على غير ذي العلم إذا عومل معاملة العالم، أو اختلط به فيما وقعت عليه أو فيما فصل بها، ولا تقع على آحاد ما لا يعقل مطلقاً خلافاً لزاعم ذلك. وأكثر لسان العرب أنها لا تكون نكرة موصوفة إلا في موضع يختص بالنكرة، كقول سويد بن أبي كاهل :
رب من أنضجت غيظاً صدرهلو تمنى لي موتاً لم يطع
ويقل استعمالها في موضع لا يختص بالنكرة، نحو قول الشاعر :
فكفى بنا فضلاً على من غيرناحب النبي محمد إيانا


الصفحة التالية
Icon