وقد طال بنا الكلام في هذه الجملة، وتركنا أشياء مما ذكره الناس، وهذه التقييدات والتفسيرات التي فسر بها الذكران، لا يدل اللفظ على شيء منها، وينبغي أن يحمل ذلك من المفسرين له على سبيل التمثيل وجواز أن يكون المراد. وأما دلالة اللفظ فهي طلب مطلق الذكر، والذي يتبادر إليه الذهن هو الذكر اللساني. والذكر اللساني لا يكون ذكر لفظ الجلالة مفرداً من غير إسناد، بل لا بدّ من إسناد، وأولاها الأذكار المروية في الآثار، والمشار إليها في القرآن. وقد جاء الترغيب في ذكر جملة منها، والوعد على ذكرها بالثواب الجزيل. وتلك الأذكار تتضمن : الثناء على الله، والحمد له، والمدح لجلاله، والتماس الخير من عنده. فعبر عن ذلك بالذكر، وأمر العبد به، فكأنه قيل : عظموا الله، وأثنوا عليه بالألفاظ الدالة على ذلك. وسمى الثواب المترتب على ذلك ذكراً، فقال : فاذكروني أذكركم على سبيل المقابلة، لما كان نتيجة الذكر وناشئاً عنه سماه ذكراً. ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ تقدّم تفسير الشكر، وعداه هنا باللام، وكذلك ﴿أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ﴾، وهو من الأفعال التي ذكر أنها تارة تتعدّى بحرف جر، وتارة تتعدّى بنفسها، كما قال عمرو بن لجاء التميمي :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤١٧
هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكمفهلا شكرت القوم إذ لم تقابل
وفي إثبات هذا النوع من الفعل، وهو أن يكون يتعدّى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر، بحق الوضع فيهما خلاف. وقالوا : إذا قلت : شكرت لزيد، فالتقدير : شكرت لزيد صنيعه، فجعلوه مما يتعدّى لواحد بحرف جر ولآخر بنفسه. ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله : واشكروا لي ما أنعمت به عليكم. وقال ابن عطية : واشكروا لي، واشكروني بمعنى واحد، ولي أفصح وأشهر مع الشكر ومعناه : نعمتي وأيادي، وكذلك إذا قلت : شكرتك، فالمعنى : شكرت لك صنيعك وذكرته، فحذف المضاف، إذ معنى الشكر : ذكر اليد وذكر مسديها معاً، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف، انتهى كلامه، ويحتاج، كونه يتعدى لواحد بنفسه، وللآخر بحرف جر، فتقول : شكرت لزيد صنيعه، لسماع من العرب، وحينئذ يصار إليه.
﴿وَلا تَكْفُرُونِ﴾ : وهو من كفر النعمة، وهو على حذف مضاف، أي ولا تكفروا نعمتي. ولو كان من الكفر ضدّ الإيمان، لكان : ولا تكفروا، أو ولا تكفروا بي. وهذه النون نون الوقاية، حذفت ياء المتكلم بعدها تخفيفاً لتناسب الفواصل. قيل : المعنى واشكروا لي بالطاعة، ولا تكفرون بالمعصية. وقيل : معنى الشكر هنا : الاعتراف بحق المنعم، والثناء عليه، ولذلك قابله بقوله :﴿وَلا تَكْفُرُونِ﴾. وهنا ثلاث جمل : جملة الأمر بالذكر، وجملة الأمر بالشكر، وجملة النهي عن الكفران. فبدىء أولاً بجملة الذكر، لأنه أريد به الثناء والمدح العام والحمد له تعالى، وذكر له جواب مترتب عليه. وثنى بجملة الشكر، لأنه ثناء على شيء خاص، وقد اندرج تحت الأول، فهو بمنزلة التوكيد، فلم يحتج إلى جواب. وختم بجملة النهي، لأنه لما أمر بالشكر، لم يكن اللفظ ليدل على عموم الأزمان، ولا يمكن التكليف باستحضار الشكر في كل زمان، فقد يذهل الإنسان عن ذلك في كثير من الأوقات. ونهى عن الكفران، لأن النهي يقتضي الامتناع من المنهي عنه في كل الأزمان، وذلك ممكن لأنه من باب التروك. وقد تقدم لنا الكلام على أنه إذا كان أمر ونهي، بدىء بالأمر. وذكرنا الحكمة في ذلك في قوله :﴿وَءَامِنُوا بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرا بِهِا﴾، فأغنى عن إعادته هنا..
٤٤٧
﴿يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ﴾،
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤١٧