أو على المصائب بالثواب، أقوال : والأحسن عدم التقييد، أي كل من صبر صبراً محموداً شرعاً، فهو مندرج في الصابرين. قالوا : والصبر من خواص الإنسان، لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة، وهو بدني. وهو : إما فعلي، كتعاطي الأعمال الشاقة، وإما احتمال، كالصبر على الضرب الشديد، ونفسي، وهو قمع النفس عن مشتهيات الطبع. فإن كان من شهوة الفرج والبطن، سمي عفة. وإن كان من احتمال مكروه، اختلفت أسامية باختلاف المكروه. ففي المصيبة يقتصر عليه باسم الصبر، ويضاده الجزع. وإن كان في الغنى، سمي ضبط النفس، ويضاده البطر. وإن كان في حرب، سمي شجاعة، ويضاده الجبن. وإن كان في نائبة مضجرة، سمي سعة صدر، ويضاده الضجر. وإن كان في إخفاء كلام، سمي كتماناً، وضاده الإعلان. وإن كان في فضول الدنيا، سمي زهداً، ويضاده الحرص. وإن كان على يسير من المال، سمي قناعة، ويضاده الشره. وقد جمع الله أقسام ذلك وسمى جميعها صبراً، فقال :﴿وَالصَّـابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ﴾، أي المصيبة والضرّاء، أي الفقر وحين البأس، أي المحاربة. قال القفال : ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه، ولا أن لا يكره ذلك، إنما هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع، وإن ظهر دمع عين، أو تغير لون، ولو ظهر منه أول ما لا يعد معه صابراً ثم صبر، لم يعد ذلك إلا سلواناً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤١٧
﴿الَّذِينَ إِذَآ أَصَـابَتْهُم مُّصِيبَةٌ﴾ : يجوز في الذين أن يكون منصوباً على النعت للصابرين، وهو ظاهر الإعراب، أو منصوباً على المدح، فيكون مقطوعاً، أو مرفوعاً على إضمارهم على وجهين : إما على القطع، وإما على الاستئناف، كأنه جواب لسؤال مقدر، أي : من الصابرون ؟ قيل : هم الذين الذين إذا. وجوزوا أن يكون الذين مبتدأ، وأولئك عليهم خبره، وهو محتمل. مصيبة : اسم فاعل من أصابت، وصار لها اختصاص بالشيء المكروه، وصارت كناية عن الداهية، فجرت مجرى الأسماء ووليت العوامل. وأصابتهم مصيبة : من التجنيس المغاير، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً، ومنه :﴿﴾. والمصيبة : كل ما أذى المؤمن في نفس أو مال أو أهل، صغرت أو كبرت، حتى انطفاء المصباح لمن يحتاجه يسمى : مصيبة. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلّم، أنه استرجع عند انطفاء مصباحه. والمعنى في إذا هنا : على التكرار والعموم. وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في إذا، أتدل على التكرار، أم وضعت للمرّة الواحدة ؟ قولان للنحويين.
﴿قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ﴾ : قالوا : جواب إذا، والشرط وجوابه صلة للذين. وإنا : أصله إننا، لأنها إن دخلت على الضمير المنصوب المتصل، فحذفت نون من إن. وينبغي أن تكون المحذوفة هي الثانية، لأنها ظرف، ولأنها عهد فيها الحذف إذا خففت، فقالوا : إن زيد لقائم، وهو حذف هنا لاجتماع الأمثال، فلذلك عملت، إذ لو كان من الحذف لا لهذه العلة، لانفصل الضمير وارتفع ولم تعمل، لأنها إذا خففت هذا التخفيف لم تعمل في الضمير. ولله : معناه الإقرار بالملك والعبودية لله، فهو المتصرّف فينا بما يريد من الأمور.
﴿وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ : إقرار بالبعث وتنبيه على مصيبة الموت التي هي أعظم المصائب، وتذكير أن ما أصاب الإنسان دونها فهو قريب ينبغي أن يصير له. وللمفسرين في هاتين الجملتين المقولتين أقوال : أحدها : أن نفوسنا وأموالنا وأهلينا لله لا يظلمنا فيما يصنعه بنا. الثاني : أسلمنا الأمر لله ورضينا بقضائه، ﴿وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ يعني : للبعث لثواب المحسن ومعاقبة المسيء. الثالث : راجعون إليه في جبر المصاب وإجزال الثواب. الرابع : أن معناه إقرار بالمملكة في قوله :﴿إِنَّا لِلَّهِ﴾، وإقرار بالهلكة في قوله :﴿وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤١٧
وفي المنتخب ما ملخصه : إن إسناد الإصابة إلى المصيبة، لا إلى الله تعالى، ليعم ما كان من الله، وما كان من غيره. فما كان من الله فهو داخل تحت قوله :﴿إِنَّا لِلَّهِ﴾، لأن في الإقرار بالعبودية تفويضاً للأمور إليه، وما كان من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله في الإنصاف
٤٥١
منه، ولا يتعدى، كأنه في الأول ﴿إِنَّا لِلَّهِ﴾، يدبر كيف يشاء، وفي الثاني :﴿وَإِنَّآ إِلَيْهِ﴾، ينصف لنا كيف يشاء. وقيل :﴿إِنَّا لِلَّهِ﴾، دليل على الرضا بما نزل به في الحال، ﴿وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، دليل على الرضا في الحال بكل ما سينزل به بعد ذلك. واشتملت الآية على فرض ونفل. فالفرض : التسليم لأمر الله، والرضا بقدره، والصبر على أداء فرائضه. والنفل : إظهاراً لقول ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، وفي إظهاره فوائد منها : غيظ الكفار لعلمهم بجده في طاعة الله.


الصفحة التالية
Icon