وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة مزيد التوكيد في الأمر بتولية وجهه من حيث خرج صلى الله عليه وسلّم شطر المسجد، وبتوليتهم وجوههم شطره للاعتناء بأمر نسخ القبلة، حيث كان النسخ صعباً على النفوس، حيث ألفوا أمراً، وأمروا بتركه والانتقال إلى غيره، وخصوصاً عند من لا يرى النسخ. فلذلك كرروا أنه تعالى أمر بذلك وفعله لانتفاء حجج الناس، لأن ذلك، إذا كان بأمر منه تعالى، لم تبق لأحد حجة على ممتثل أمر الله، لأن أمر الله ثانياً، كأمره أولاً. وهو قد أمر أولاً باستقبال بيت المقدس، وأمر آخراً باستقبال الكعبة. فلا فرق بين الأمرين، ولا حجة لمن خالف. واستثنى من الناس من ظلم، لأنه لا تنقطع حججه، وإن كانت باطلة، ولا تشغيباته وتمويهاته، لأنه قام به وصف يمنعه من إدراك الحق والبلج به، ثم أمرهم تعالى بخشيته، ونهاهم عن خشية الناس، لأنهم إذا خشوا الله تعالى امتثلوا أوامره واجتنبوا مناهيه. وعطف على تلك العلة علة أخرى، وهي إتمام النعمة باستقبال الكعبة إذ في ذلك اتباع أبيكم إبراهيم، والرجوع إلى المألوف، ولتحصيل الهداية. وشبه هذا الإتمام بإتمام نعمة إرسال الرسول منهم فيهم، إذ هذه النعمة هي الأصل، وهي منبع النعم والهداية، ثم وصف المرسل إليهم بتلك الأوصاف الجليلة التي رزقوا منها الحظ الأكمل، وهي تلاوة الكتاب عليهم :﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ ؟ فكيف بمزيد التزكية والتعليم اللذين بهما تحصل الطهارة من الأرجاس والحياة السرمدية في الناس ؟
أخو العلم حيّ خالد بعد موتهوأوصاله تحت التراب رميم
وقال آخر :
محل العلم لا يأوي تراباولا يبلى على الزمن القديم
ثم أمرهم تعالى بالذكر لهذه النعم لئلا ينسوها، وبالشكر عليها لأن يزيدهم من النعم. ثم نهاهم عن كفرانها، لأن كفران النعم يقتضي زوالها واستحقاق العذاب الشديد عليه. ثم نادى من اتصف بالإيمان، وهو ثاني نداء للمؤمنين في هذه السورة، ليقبلوا على ما يأمرهم به. فأمرهم بالاستعانة بالصبر والصلاة، لأن الاستعانة بهما تحصل سعادة الدنيا والآخرة. ثم أخبر تعالى أنه مع من صبر ثم نهاهم عن أن يقولوا للشهداء إنهم أموات، وأخبر أنهم أحياء، فوجب تصديق ما أخبر به، وذكر أنا لا نشعر نحن بحياتهم. ثم أخبر تعالى أنه يبتليهم بما يظهر منهم فيه الصبر، وهو شيء من البلايا التي ذكرها تعالى. ثم أمر نبيه أن يبشر الصابرين على ما ابتلوا به المسلمين لقضاء الله اعتقاداً وقولاً صريحاً أنهم عبيد الله ومماليكه، وإليه مآبهم ومرجعهم، يتصرف فيهم كما أراد. ثم ختم ذلك بأن من اتصف بهذا الوصف، فعليه من الله الصلاة والرحمة، وهو المهتدي الذي ثبتت هدايته ورسخت.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤١٧
٤٥٣
الصفا : ألفه منقلبة عن واو لقولهم : صفوان، ولاشتقاقه من الصفو، وهو الخالص. وقيل : هو اسم جنس بينه وبين مفرد تاءه التأنيث، ومفرده صفاة. وقيل : هو اسم مفرد يجمع على فعول وأفعال، قالوا : صفيّ وأصفاء. مثل : قفيّ وأقفاء. وتضم الصاد في فعول وتكسر، كعصي، وهو الحجر الأملس. وقيل : الحجر الذي لا يخالطه غيره من طين، أو تراب يتصل به، وهو الذي يدل عليه الاشتقاق. وقيل : هو الصخرة العظيمة. المروة : واحدة المرو، وهو اسم جنس، قال :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣
فترى المرو إذا ما هجرتعن يديها كالفراش المشفتر
وقالوا : مروات في جمع مروة، وهو القياس في جمع تصحيح مروة، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقيل : الحجارة الصلبة. وقيل : الصغار المرهفة الأطراف. وقيل : الحجارة السود. وقيل : البيض. وقيل : البيض الصلبة. والصفا والمروة في الآية : علمان لجبلين معروفين، والألف واللام لزمتا فيهما للغلبة، كهما في البيت : للكعبة، والنجم : للثريا، الشعائر : جمع شعيرة أو شعارة. قال الهروي : سمعت الأزهري يقول : هي العلائم التي ندب الله إليها، وأمر بالقيام بها. وقال الزجاج : كل ما كان م موقف ومشهد ومسعى ومذبح. وقد تقدّمت لنا هذه المادة، أعني مادة شعر، أي أدرك وعلم. وتقول العرب : بيتنا شعار : أي علامة، ومنه إشعار الهدي. الحج : القصد مرة بعد أخرى. قال الراجز :
لراهب يحج بيت المقدسفي منقل وبرجد وبرنس


الصفحة التالية
Icon