والناس أجمعون، بالرفع. وخرج هذه القراءة جميع من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه معطوف على موضع اسم الله، لأنه عندهم في موضع رفع على المصدر، وقدروه : أن لعنهم الله، أو : أن يلعنهم الله. وهذا الذي جوزوه ليس بجائز على ما تقرر في العطف على الموضع، من أن شرطه أن يكون ثم طالب ومحرز للموضع لا يتغير، هذا إذا سلمنا أن لعنة هنا من المصادر التي تعمل، وأنه ينحل لأن والفعل. والذي يظهر أن هذا المصدر لا ينحل لأن والفعل، لأنه لا يراد به العلاج. وكان المعنى : أن عليهم اللعنة المستقرة من الله على الكفار، أضيفت إلى الله على سبيل التخصيص، لا على سبيل الحدوث. ونظير ذلك :﴿أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ﴾، ليس المعنى إلا أن يلعن الله على الظالمين، وقولهم له ذكاء الحكماء. ليس المعنى هنا على الحدوث وتقدير المصدرين منحلين لأن والفعل، بل صار ذلك على معنى قولهم : له وجه وجه القمر، وله شجاعة شجاعة الأسد، فأضفت الشجاعة للتخصيص والتعريف، لا على معنى أن يشجع اوسد. ولئن سلمنا أنه يتقدر هذا المصدر، أعني لعنة الله بأن والفعل، فهو كما ذكرناه لا محرز للموضع، لأنه لا طالب له. ألا ترى أنك لو رفعت الفاعل بعد ذكر المصدر لم يجز حتى تنون المصدر ؟ فقد تغير المصدر بتنوينه، ولذلك حمل سيبويه قولهم : هذا ضارب زيد غداً وعمراً، على إضمار فعل : أي ويضرب عمراً، ولم يجز حمله على موضع زيد لأنه لا محرز للموضع. ألا ترى أنك لو نصبت زيداً لقلت : هذا ضارب زيداً وتنون ؟ وهذا أيضاً على تسليم مجيء الفاعل مرفوعاً بعد المصدر المنون، فهي مسألة خلاف. البصريون يجيزون ذلك فيقولون : عجبت من ضرب زيد عمراً. والفراء يقول : لا يجوز ذلك، بل إذا نون المصدر لم يجيء بعده فاعل مرفوع. والصحيح مذهب الفراء، وليس للبصريين حجة على إثبات دعواهم من السماع، بل أثبتوا ذلك بالقياس على أن والفعل. فمنع هذا التوجيه الذي ذكروه ظاهر، لأنا نقول : لا نسلم أنه مصدر ينحل، لأن والفعل، فيكون عاملاً. سلمنا، لكن لا نسلم أن للمجرور بعده موضعاً. سلمنا، لكن لا نسلم أنه يجوز العطف عليه. وتتخرج هذه القراءة على وجوه غير الوجه الذي ذكروه. أولاها : أنه على إضمار فعل لما لم يمكن العطف، التقدير : وتلعنهم الملائكة، كما
٤٦١
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣
خرج سيبويه في : هذا ضارب زيد وعمراً : أنه على إضمار فعل : ويضرب عمراً. الثاني : أنه معطوف على لعنة الله على حذف مضاف، أي لعنة الله ولعنة الملائكة، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه نحو :﴿وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ﴾. الثالث : أن يكون مبتدأ حذف خبره لفهم المعنى، أي والملائكة والناس أجمعون يلعنونهم. وظاهر قوله : والناس أجمعين العموم، فقيل ذلك يكون في القيامة، إذ يلعن بعضهم بعضاً، ويلعنهم الله والملائكة والمؤمنون، فصار عاماً، وبه قال أبو العالية. وقيل : أراد بالناس من يعتد بلعنته، وهم المؤمنون خاصة، وبه قال ابن مسعود، وقتادة، والربيع، ومقاتل. وقيل : الكافرون يلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون، فيقولون : في الدنيا لعن الله الكافر، فيتأتى العموم بهذا الاعتبار، بدأ تعالى بنفسه، وناهيك بذلك طرداً وإبعاداً. ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ﴾ ؟ من لعنه الله، فلعنة الله هي التي تجر لعنة الملائكة والناس. ألا ترى إلى قول بعض الصحابة : وما لي لا ألعن من لعنه الله على لسان رسوله ؟ وكما روي عن أحمد، أن ابنه سأله : هل يلعن ؟ وذكر شخصاً معيناً. فقال لابنه : يا بني، هل رأيتني ألعن شيئاً قط ؟ ثم قال : وما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه ؟ قال فقلت : يا أبت، وأين لعنة الله ؟ قال : قال تعالى :﴿أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ﴾. ثم ثنى بالملائكة، لما في النفوس من عظم شأنهم وعلو منزلتهم وطهارتهم. ثم ثلث بالناس، لأنهم من جنسهم، فهو شاق عليهم، لأن مفاجأة المماثل من يدعي المماثلة بالمكروه أشق، بخلاف صدور ذلك من الأعلى.


الصفحة التالية
Icon