﴿وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ﴾ : أي من جهة السماء. من الأولى لابتداء الغاية تتعلق بـ أنزل، وفي أنزل ضمير نصب عائد على ما، أي والذي أنزله الله من السماء. ومن الثانية مع ما بعدها بدل من قوله :﴿مِّنَ السَّمَآءِ﴾، بدل اشتمال، فهو على نية تكرار العامل، أو لبيان الجنس عند من يثبت لها هذا المعنى، أو للتبعيض، وتتعلق بـ إنزل. ولا يقال : كيف تتعلق بـ إنزل من الأولى والثانية، لأن معنييهما مختلفان. ﴿فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ : عطف على صلة ما، الذي هو أنزل بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات، وبه عائد على الموصول. وكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره. وهما كنايتان غريبتان، لأن ما برز منها بالمطر جعل تعالى فيه القوة الغاذبة والنامية والمحركة، وما لم يظهر فهو كامن فيها، كأنه
٤٦٥
دفين فيها، وله له قبر.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣
﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾ : إن قدرت هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من الصلتين، احتاجت إلى ضمير يعود على الموصول، لأن الضمير في فيها عائد على الأرض وتقديره : وبث فيها من كل دابة. لكن حذف هذا الضمير، إذا كان مجروراً بالحرف، له شرط، وهو أن يدخل على الموصول، أو الموصوف بالموصول، أو المضاف إلى الموصول حرف جر، مثل ما دخل على الضمير لفظاً ومعنى، وأن يتحد ما تعلق به الحرفان لفظاً ومعنى، وأن لا يكون ذلك المجرور العائد على الموصول وجاره في موضع رفع، وأن لا يكون محصوراً، ولا في معنى المحصور، وأن يكون متعيناً للربط. وهذا الشرط مفقود هنا. قال الزمخشري : فإن قلت قوله :﴿وَبَثَّ فِيهَا﴾، عطف على أنزل أم أحيا ؟ قلت : الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة، لأن قوله :﴿فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ﴾ عطف على أنزل، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد، وكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة. ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة، لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة. انتهى كلامه، ولا طائل تحته. وكيفما قدّرت من تقدير يلزم أن يكون في قوله :﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾ ضمير يعود على الموصول، سواءأعطفته على أنزل، أو على فأحيا، لأن كلتا الجملتين في صلة الموصول. والذي يتخرّج على الآية، أنها على حذف موصول لفهم المعنى معطوف على ما من قوله :﴿وَمَآ أَنزَلَ﴾، التقدير : وما بث فيها من كل دابة، فيكون ذلك أعظم في الآيات، لأن ما بث تعالى في الأرض من كل دابة فيه آيات عظيمة في أشكالها وصفاتها وأحوالها وانتقالاتها ومضارها ومنافعها وعجائبها، وما أودع في كل شكل، شكل منها من الأسرار العجيبة ولطائف الصنعة الغريبة، وذلك من الفيل إلى الذرة، وما وأجد تعالى في البحر من عجائب المخلوقات المباينة لأشكال البر. فمثل هذا ينبغي إفراده بالذكر، لا أنه يجعل منسوقاً في ضمن شيء آخر وحذف الموصول الاسمي، غير أن أل عند من يذهب إلى اسميتها لفهم المعنى جائز شائع في كلام العرب، وإن كان البصريون لا يقيسونه، فقد قاسه غيرهم، قال بعض طي :
ما الذي دأبه احتياط وحزموهواه أطاع مستويان
أي : والذي أطاع، وقال حسان :
أمن يهجو رسول الله منكمويمدحه وينصره سواء
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣
أي : ومن يمدحه، وقال آخر :
فوالله ما نلتم وما نيل منكمبمعتدل وفق ولا متقارب
يريد : ما الذي نلتم وما نيل منكم، وقد حمل على حذف الموصول قوله تعالى :﴿وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ﴾، أي والذي أنزل إليكم ليطابق قوله تعالى :﴿وَالْكِتَـابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِا وَالْكِتَـابِ الَّذِى أَنَزَلَ مِن قَبْلُ﴾. وقد يتمشى التقدير الأول على ارتكاب حذف الضمير لفهم المعنى، وإن لم يوجد شرط جواز حذفه، وقد جاء ذلك في أشعارهم، قال :
وإن لساني شهدة يشتفى بهاوهو على من صبه الله علقم
يريد : من صبه الله عليه، وقال :
لعلّ الذي أصعدتني أن تردنيإلى الأرض إن لم يقدر الخير قادر
٤٦٦
يريد : أصعدتني به. فعلى هذا القول يكون ﴿مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾ في موضع المفعول، ومن تبعيضية. وعلى مذهب الأخفش، يجوز أن تكون زائدة، وكل دابة هو نفس المفعول، وعلى حذف الموصول يكون مفعول بث محذوفاً، أي : وبثه، وتكون من حالية، أي : كائناً من كل دابة، فهي تبعيضية، أو لبيان الجنس عند من يرى ذلك. ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَـاحِ﴾ في هبوبها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً، وفي أوصافها حارة وباردة ولينة وعاصفة وعقيماً ولواقح ونكباء، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين. وقيل : تارة بالرحمة، وتارة بالعذاب. وقيل : تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما يحملها، والصغار كذلك، ويصرف عنها ما يضر بها، ولا اعتبار بكبر القلوع ولا صغرها، فإنها لو جاءت جسداً واحداً لصدمت القلوع وأغرقت.


الصفحة التالية
Icon