﴿وَإِذِ ابْتَلَى إبراهيم رَبُّه بِكَلِمَـاتٍ فَأَتَمَّهُنَّا قَالَ إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى ﴾ : مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه لما جرى ذكر الكعبة والقبلة، وأن اليهود عيروا المؤمنين بتوجههم إلى الكعبة وترك بيت المقدس، كما قال :﴿مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ﴾، ذكر حديث إبراهيم وما ابتلاه به الله، واستطرد إلى ذكر البيت وكيفية بنائه، وأنهم لما كانوا من نسل إبراهيم، كان ينبغي أن يكونوا أكثر الناس اتباعاً لشرعه، واقتفاء لآثاره. فكان تعظيم البيت لازماً لهم، فنبه الله بذلك على سوء اعتمادهم، وكثرة مخالفتهم، وخروجهم عن سنن من ينبغي اتباعه من آبائهم، وأنهم، وإن كانوا من نسله، لا ينالون لظلمهم شيئاً من عهده، وإذ العامل فيه على ما ذكروا محذوف، وقدروه اذكر، أي اذكرا إذ ابتلي إبراهيم، فيكون مفعولاً به، أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت. وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى :﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئاِكَةِ﴾، والاختيار أن يكون العامل فيه ملفوظاً به، وهو ﴿قَالَ إِنِّى جَـاعِلُكَ﴾. والابتلاء : الاختبار، ومعناه أنه كلفه بأوامر ونواه. والباري تعالى عالم بما يكون منه. وقيل : معناه أمر. قال الزمخشري : واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اخيتار أحد الأمرين : ما يريد الله، وما يشتهيه العبد، كأنه امتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك. انتهى كلامه، وفيه دسيسة الاعتزال. وفي ري الظمآن الابتلاء : إظهار الفعل، والاختبار : طلب الخبر، وهما متلازمان.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣
وابراهيم هنا، وفي جميع القرآن هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو خليل الله، ابن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر، وهو هود النبي عليه السلام، ومولده بأرض الأهواز. وقيل : بكوثي، وقيل : ببابل، وقيل : بنجران، ونقله أبوه إلى بابل أرض نمروذ بن كنعان. وقد تقدّم ذكر اللغات الست في لفظه. وقرأ الجمهور : إبراهيم بالألف والياء. وقرأ ابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان في البقرة بألفين. زاد هشام أنه قرأ كذلك في : ابراهيم، والنحل، ومريم، والشورى، والذاريات، والنجم، والحديد، وأول الممتحنة، وثلاث آخر النساء، وأخرى التوبة، وآخر الأنعام، والعنكبوت. وقرأ المفضل : ابراهام بألفين، إلا في المودة والأعلى. وقرأ ابن الزبير : ابراهام، وقرأ أبو بكرة : إبراهم بألف وحذف الياء وكسر الهاء. وقرأ الجمهور : بنصب إبراهيم ورفع ربه. وقرأ ابن عباس، وأبو الشعثاء،
٤٧٤
مثل إراءتهم تلك الأهوال، ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَـالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾، فيكون نعتاً لمصدر محذوف، فيكون في موضع نصب. وجعل صاحب المنتخب ذلك من قوله : كذلك، إشارة إلى تبرؤ بعضهم من بعض. والأجود تشبيه الآراءة بالآرةء، وجوزوا في يريهم أن تكون بصرية عديت بالهمزة، فتكون حسرات منصوباً على الحال، وأن تكون قلبية، فتكون مفعولاً ثالثاً، قالوا : ويكون ثم حذف مضاف، أي على تفريطهم. وتحسر : يتعدى بعلى، تقول : تحسرت على كذا، فعلى هنا متعلقة بقوله : حسرات. ويحتمل أن تكون في موضع الصفة، فالعامل محذوف، أي حسرات كائنة عليهم، وعلى تشعر بأن الحسرات مستعلية عليهم. وأعمالهم، قيل : هي الأعمال التي صنعوها، وأضيفت إليهم من حيث عملوها، وأنهم مأخوذون بها. وهذا على قول من يقول : إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وهذا معنى قول الربيع وابن زيد : أنها الأعمال السيئة التي ارتكبوها، فوجب بهم بها النار. وقال ابن مسعود والسدّي : المعنى أعمالهم الصالحة التي تركوها، ففاتتهم الجنة، وأضيفت إليهم من حيث كانوا مأمورين بها. قال السدي : ترفع لهم الجنة فينظرون إلى بيوتهم فيها، لو أطاعوا الله تعالى، فيقال لهم : تلك مساكنكم لو أطعتم الله تعالى، ثم تقسم بين المؤمنين فيرثونهم، فذلك حين يندمون. وهذا معنى قول بعضهم، إن أعمالهم قد أحبط ثوابها كفرهم، لأن الكافر لا يثاب مع كفره. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلّم، وقد ذكر له أن ابن جدعان كان يصل الرحم ويطعم المسكين، وسئل : هل ذلك نافعة ؟ قال :"لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"، ومنه قوله تعالى :﴿وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا﴾. وقيل : المعنى أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم. والظاهر أنها الأعمال التي اتبعوا فيها رؤساءهم وقادتهم، وهي الكفر والمعاصي. وكانت حسرة عليهم، لأنهم رأوها مسطورة في صحائفهم، وتيقنوا الجزاء عليها، وكان يمكنهم تركها والعدول عنها، لو شاء الله.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣


الصفحة التالية
Icon