﴿وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ : هذا يدل على دخول النار، إذ لا يقال : ما زيد بخارج من كذا إلا بعد الدخول. ولم يتقدم في الآية نص على دخولهم، إنما تقدم رؤيتهم العذاب ومفاوضة بسبب تبرؤ المتبوعين من الأتباع، وجاء الخبر مصحوباً بالباء الدالة على التوكيد. وقال الزمخشري : هم بمنزلته في قوله :
هم يفرشون اللبد كل طمرّه
في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم، لا على الاختصاص. انتهى كلامه، وفيه دسيسة اعتزال، لأنه إذا لم يدل على الاختصاص، لا يكون فيه رد لقول المعتزلة، إن الفاسق يخلد في النار ولا يخرج منها. وأما قول صاحب المنتخب : إن الأصحاب احتجوا على أن صاحب الكبيرة من أهل القبلة، إلى آخر كلامه، فهو غير مسلم، ولا دلالة في الآية على شيء من المذهبين. لأنك إذا قلت : ما زيد بمنطلق، وإنما في ذلك دلالة على نفي انطلاق زيد، وأما أن في ذلك دلالة على اختصاصه بنفي الانطلاق، أو مشاركة غيره له في نفي الانطلاق، فلا إنما يفهم ذلك، أعني الاختصاص، بنفي الخروج من النار، إذ المشاركة في ذلك من دليل خارج، وهل النفي إلا مركب على الإيجاب ؟ فإذا قلت : زيد منطلق، فليس في هذا دليل على شيء من الاختصاص، ولا شيء من المشاركة، فكذلك النفي، وكونه قابلاً للخصومة والاشتراك، يدل على ذلك. ألا ترى أنك تقول : زيد منطلق لا غيره، وزيد منطلق مع غيره ؟.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة. إخباره تعالى بأن الصفا والمروة من معالمه التي جعلها محملاً لعبادته، وإن كان قد سبق غشيان المشركين لها، وتقربهم بالأصنام عليها. وصرّح برفع الإثم عمن طاف بهما ممن حج أو اعتمر. ثم ذكر أن من تبرع بخير، فإن الله شاكر لفعله، عليم بنيته، لما كان التطوّع يشتمل على فعل ونية، ختم بهاتين الصفتين المتناسبتين. ثم أخبر تعالى عمن كتم ما أنزل الله من
٤٧٥
الحكم الإلهي من بعد ما بينه في كتابه، لعنه الله وملائكته ومن يسوغ منه اللعن من صالحي عباده. ثم استثنى من تاب وأصلح، وبين ما كتم. ولم يكتف بالتوبة فقط حتى أضاف إليها الإصلاح، لأن كتم ما أنزل الله من أعظم الإفساد، إذ فيه حمل الناس على غير المنهج الشرعي. وأضاف التبيين لما كتم حتى يتضح للناس وضوحاً بيناً ما كان عليه من الضلال، وأنه أقلع عن ذلك، وسلك نقيض فعله الأول، فكان ذلك أدعى لزوال ما قرر أولاً من كتمان الحق وبضدها تتبين الأشياء
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣
ثم أخبر تعالى عن هؤلاء المستثنين، أنه يتوب عليهم، وأنه تعالى لا يتعاظم عنده ذنب، وإن كان أعظم الذنوب، إذا تاب العبد منه. ثم أخبر تعالى أنه التواب الرحيم، بصفتي المبالغة التي في فعال وفعيل. ولما ذكر تعالى حال المؤمنين المتسمين بالصبر والصلاة والحج، وغير ذلك من أعمال البر، وحال من ارتكب المعاصي، ثم أقلع عن ذلك وتاب إلى الله. ذكر حال من وافى على الكفر، وأنه تحت لعنة الله وملائكته والناس، وأنهم خالدون في اللعنة، غير مخفف عنهم العذاب، ولا مرجؤن إلى وقت. ثم لما كان كفر معظم الكفار إنما هو لاتخاذهم مع الله آلهة ﴿أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا ﴾ ؟ ﴿قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ﴾ ؟ ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾، وفي الحديث :"أنهم يسألون فيقولون كنا نعبد عزيراً.
أخبر تعالى أن الإله هو واحد لا يتعدد ولا يتجزأ، ولا له مثيل في صفاته. ثم حصر الإلهية فيه، فتضمن ذلك أنه هو المثيب المعاقب، فوصف نفسه بهاتين الصفتين من الرحمانية والرحيمية. ثم أخذ في ذكر ما يدل على الوحدانية والانفراد بالإلهية. فبدأ بذكر اختراع الأفلاك العلوية، والجرم الكثيف الأرضي، وما يكون فيهما من اختلاف ما به السكون والحركة، من الليل والنهار الناشئين عما أودع الله تعالى في العالم العلوي، واختلاف الفلك ذاهبة وآيبة بما ينفع الناس الناشىء ذلك عما أودع في العالم السفلي، وما يكون مشتركاً بين العالمين، من إنزال الماء، وتشقق الأرض بالنبات، وانتشار العالم فيها. ولما ذكر أشياء في الأجرام العلوية، وأشياء في الجرم الأرضي، ذكر شيئاً مما هو بين الجرمين، وهو تصريف الرّياح والسحاب، إذ كان بذلك تتم النعمة المقتضية لصلاح العالم في منافعهم البحرية والبرية. ثم ذكر أن هذا كله هي آيات للعاقل، تدله على وحدانية الله تعالى واختصاصه بالإلهية، إذ من عبدوه من دون الله يعلمون قطعاً أنه لا يمكنه اقتدار على شيء مّا تضمنته هذه الآيات، وأنهم بعض ما حوته الدائرة العلوية والدائرة السفلية، وأن نسبتهم إلى من لم يعبدوه من سائر المخلوقات نسبة واحدة في الافتقار والتغير، فلا مزية لهم على غيرهم إلا عند من سلب نور العقل، وغشبته ظلمات الجهل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٣


الصفحة التالية
Icon