﴿النَّارِ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِى الارْضِ حَلَـالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِا إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ : هذا ثاني نداء وقع في سورة البقرة بقوله : يا أيها الناس، ولفظه عام. قال الحسن : نزلت في كل من حرم على نفسه شيئاً لم يحرمه الله عليه. وروي الكلبي ومقاتل وغيرهما : أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب، قاله النقش. وقيل : في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة. قيل : وبني مدلج، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام، وحرموا البحيرة والسوائب والوصيلة والحام. فإن صح هذا، كان السبب خاصاً واللفظ عاماً، والعبرة بعموم اللفظ لا يخصوص السبب. ومناسبة هذا لما قبله، أنه لما بين التوحيد ودلائله، وما للتائبين والعاصين، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الكافر والمؤمن، ليدل أن الكفر لار يؤثر في قطع الأنعام. وقال المروزي : لما حذر المؤمنين من حال من يصير عمله عليه حسرة، أمرهم بأكل الحلال، لأن مدار الطاعة عليه. كلوا : أمر إباحة وتسويغ، لأنه تعالى هو الموجد للأشياء، فهو المتصرف فيها على ما يريد.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧٧
مما في الأرض، من : تبعيضية، وما : موصولة، ومن : في موضع المفعول، نحو : أكلت من الرغيف، وحلالاً : حال من الضمير المتسقر في الصلة المنتقل من العامل فيها إليه. وقال مكي بن أبي طالب : حلالاً : نعت لمفعول تقديره محذوف تقديره شيئاً حلالاً، قال ابن عطية : وهذا بعيد ولم يبين وجه بعده، وبعده أنه مما حذف الموصوف، وصفته غير خاصة، لأن الحلال يتصف به المأكول وغير المأكول. وإذا كانت الصفة هكذا، لم يجز حذف الموصوف وإقامتها مقامه. وأجاز قوم أن ينتصب حلالاً على أنه مفعول بكلوا، وبه ابتدأ الزمخشري. ويكون على هذا الوجه من لابتداء الغاية متعلقة بكلوا، أو متعلقة بمحذوف، فيكون حالاً، والتقدير : كلوا حلالاً مما في الأرض. فلما قدمت الصفة صارت حالاً، فتعلقت بمحذوف، كما كانت صفة تتعلق بمحذوف. وقال ابن عطية : مقصد الكلام لا يعطي أن تكون حلالاً مفعولاً بكلوا، تأمل. انتهى.
طيباً : انتصب صفة لقوله : حلالاً، إما مؤكدة لأن معناه ومعنى حلالاً واحد، وهو قول مالك وغيره، وإما مخصصة لأن معناه مغاير لمعنى الحلال وهو المستلذ، وهو قول الشافعي وغيره. ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث. وقيل : انتصب طيباً على أنه نعت لمصدر محذوف، أي أكلاً طيباً، وهو خلاف الظاهر. وقال ابن عطية : ويصح أن يكون طيباً حالاً من الضمير في كلوا تقديره : مستطيبين، وهذا فاسد في اللفظ والمعنى. أما اللفظ فلأن طيباً اسم فاعل وليس بمطابق للضمير، لأن الضمير جمع، وطيب مفرد، وليس طيب بمصدر، فيقال : لا يلزم المطابقة. وأما المعنى : فلأن طيباً مغاير لمعنى مستطيبين، لأن الطيب من صفات المأكول، والمستطيب من صفات الآكل. تقول : طاب لزيد الطعام، ولا تقول : طاب زيد الطعام، في معنى استطابة. وقال الزمخشري في قوله طيباً : طاهراً من كل شبهة. وقال السجاوندي : حلالاً مطلق الشرع، طيباً مستلذ الطبع. وقال في
٤٧٨
المنتخب ما ملخصه : الحلال : الذي انحلت عنه عقدة الخطر، إما لكونه حراماً لجنسه كالميتة، وإما لا لجنسه كملك الغير، إذ لم يأذن في أكله. والطيب لغة الطاهر، والحلال يوصف بأنه طيب، كما أن الحرام يوصف بأنه خبيث، والأصل في الطيب ما يستلذ، ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه، لأن النجس تكرهه النفس، والحرام لا يستلذ، لأن الشرع منه. انتهى. والثابت في اللغة : أن الطيب هو الطاهر من الدنس. قال :
والطيبون معاقد الأزر
وقال آخر
ولي الأصل الذي في مثلهيصلح الآبر زرع المؤتبر طيبوا الباءة سهل ولهم
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧٧
سبل إن شئت في وحش وعر
وقال الحسن : الحلال الطيب : هو ما لا يسئل عنه يوم القيامة. وقال ابن عباس : الحلال الذي لا تبعة فيه في الدنيا ولا وبال في الآخرة. وقيل : الحلال ما يجوزه المفتي، والطيب ما يشهد له القلب بالحل. وقد استدل من قال بأن الأصل في الأشياء الحظر بهذه الآية، لأن الأشياء ملك الله تعالى، فلا بد من إذنه فيما يتناول منها، وما عدا ما لم يأذن فيه يبقى على الحظر. وظاهر الآية أن ما جمع الوصفين الحل والطيب مما في الأرض، فهو مأذون في أكله. أما تملكه والتصدق به، أو ادخاره، أو سائر الانتفاعات به غير الأكل، فلا تدل عليه الآية. فإما أن يجوز ذلك بنص آخر، أو إجماع عند من لا يرى القياس، أو بالقياس على الأكل عند من يقول بالقياس.


الصفحة التالية
Icon