لم يرد أن يشبه فترته بانتقاض العصفور حين يبله اقطر، لكونهما حركة وسكوناً، فهما ضدان، ولكن تقديره : إني إذا ذكرتك عراني انتفاض ثم أفتر، كما أن العصفور إذا بلله القطر عراه فترة ثم ينتفض، غير أن وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة، وفترة العصفور قبل انتفاضه. وهذه الأقوال كلها في التشبيه، إنما هي على مراعاة تشبيه مفرد بمفرد، ومقابلة جزء من الكلام السابق بجزء من الكلام المشبه به. وأمّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه الجملة بالجملة، فلا يراعى في ذلك مقابلة الألفاظ المفردة، بل ينظر فيه إلى المعنى. وعلى هذا الضرب من التشبيه حمل الآية أبو القاسم الراغب، قال الراغب : فلما شبه قصة الكافرين في إعراضهم عن الداعي لهم إلى الحق بقصة الناعق، قدم ذكر الناعق ليبني عليه ما يكون منه ومن المنعوق به. وعلى هذا ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقوله تعالى :﴿مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِى هَـاذِهِ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا﴾. فهذه تسعة أقوال في تفسير هذه الآية.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧٧
وقد بقي شيء من الكلام عليها، فنقول : ومثل الذين مبتدأ، خبره كمثل، والكاف للتشبيه. شبه الصفة بالصفة، أي صفتهم كصفة الذي ينعق. ومن ذهب إلى أن الكاف زائدة، فقوله ليس بشيء، لأن الصفة ليست عين الصفة، فلا بد من الكاف التي تعطى التشبيه. بل لو جاء دونن الكاف لكنا نعتقد حذفها، لأن به تصحيح المعنى. والذي ينعق، لا يراد به مفرد، بل المراد الجنس. وتقدّم أن المراد : كالناعق بالبهائم، أو كالمصوت في الجبال الذي لا يجيبه منها إلا الصدا، أو كالمصوت بالأصم الأصلخ، أو الكنعوق به، فيكون من باب القلب. وقيل : كالمصوت بشيء بعيد منه، فهو لا يسمع من أجل البعد، فليس للمصوت من ذلك إلا النداء الذي ينصبه ويتعبه. وقيل : وقع التشبيه بالراعي للضأن، لأنها من أبله الحيوان، فهي تحمق راعيها. وفي المثل : أحمق من راعي ضأن ثمانين. وقال دريد بن الصمة لمالك بن عوف، يوم هوازن : راعي ضأن والله، لأنه لما جاء إلى قتال النبي صلى الله عليه وسلّم، أمر هوازن ومن كان معهم أن يحملوا معهم المال والنساء، فلما لقيه دريد قال : أراك سقت المال والنساء ؟ فقال : يقاتلون عن أموالهم وحريمهم. فقال له دريد : أمنت أن تكون عليك راعي ضان والله لأصحبتك، وقال الشاعر :
أصبحت هزءاً لراعي الضان يهزأ بيماذا يريبك مني راعي الضان
إلاّ دعاء ونداء : هذا استثناء مفرّغ، لأن قبله فعل مبني متعد لم يأخذ مفعوله. وذهب بعضهم إلى أنه ليس استثناء مفرغاً وأن إلاّ زائدة، والدعاء والنداء منفي سماعهما، والتقدير : بما لا يسمع دعاء ولا نداء، وهذا ضعيف، لأن القول بزيادة إلا، قول بلا دليل. وقد ذهب الأصمعي، رحمه الله، إلى ذلك في قوله :
خراجيح ما تنفك إلا مناخةعلى الخسف أو نرمي بها بلداً قفرا
وضعف قوله في ذلك، ولم يثبت زيادة إلا في مكان مقطوع به، فنثبت لها الزيادة، وأورد بعضهم هنا سؤالاً فقال : فإن قيل قوله لا يسمع إلا دعاء وندا، ليس المسموع إلا الدعاء والنداء، فكيف ذمهم بأنهم
٤٨٣
لا يسمعون إلا الدعاء ؟ وكأنه قيل : لا يسمعون إلا المسموع، وهذا لا يجوز. فالجواب : أن في الكلام إيجاراً، وإنما المعنى : لا يفهمون معاني ما يقال لهم، كما لا يميز البهائم بين معاني الألفاظ التي لا تصوت بها، وإنما يفهم شيئاً يسيراً، وقد أدركته بطول الممارسة وكثرة المعاودة، فكأنه قيل : ليس لهم إلا سماع النداء دون إدراك المعاني والأعراض. انتهى كلامه. وقال علي بن عيسى : إنما ثنى فقال : إلاّ دعاء ونداء، لأن الدعاء طلب الفعل، والنداء إجابة الصوت. ﴿صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ﴾ : تقدم الكلام على هذه الكلم. ﴿فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ : لما تقرر فقدهم لمعاني هذه الحواس، قضى بأنهم لا يعقلون. كما قال أبو المعالي وغيره : العقل علوم ضرورية يعطيها هذه الحواس، إذ لا بد في كسبها من الحواس. انتهى. قيل : والمراد العقل الاكتسابي، لأن العقل المطبوع كان حاصلاً لهم، والعقل عقلان : مطبوع ومكسوب. ولما كان الطريق لاكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاث، كان إعراضهم عنها فقداً للعقل المكتسب، ولهذا قيل : من فقد حساً فقد فَقَد عقلاً.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧٧


الصفحة التالية
Icon