﴿يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ﴾ : لما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب، وكانت وجوه الحلال كثيرة، بين لهم ما حرم عليهم، لكونه أقل. فلما بين ما حرم، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر. وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلّم، لما سئل عما يلبس المحرم فقال :"لا يلبس القميص ولا السراويل"، فعدل عن ذكر المباح إلى ذكر المحظور، لكثرة المباح وقلة المحظور، وهذا من الإيجاز البليغ. والذين آمنوا : جمع من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلّم، ويجوز أن يراد أهل المدينة، فاللفظ عام والمراد خاص. وقيل : هذا الخطاب مؤكداً لقوله :
﴿الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَـاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِا وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاسْبَابُ * وَقَالَ﴾،
٤٨٤
فصار هذا الأمر الثاني مثل الأول في أن متعلقة المستلذ الحلال. ما رزقناكم : فيه إسناد الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة، لما في الرزق من الامتنان والإحسان. وإذا فسر الطيبات بالحلال، كان في ذلك دلالة على أن ما رزقه الله ينفسم إلى حلال وإلى حرام، بخلاف ماذهبت إليه المعتزلة، من أن الرزق لا يكون إلا حلالاً. وقد تقدم الكلام على الرزق في أول السورة، فأغنى عن إعادته هنا. ومن منع أن يكون الرزق حراماً قال : المراد كلوا من مستلذ ما رزقناكم، وهو الحلال، أمر بذلك وأباحه تعالى دفعاً لمن يتوهم أن التنوع في المطاعم والتفنن في إطابتها ممنوع منه، فكان تخصيص المستلذ بالذكر لهذا المعنى.
﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾ : هذا من الالتفات، إذ خرج من ضمير المتكلم إلى اسم الغائب، وحكمة ذلك ظاهرة، لأن هذا الاسم الظاهر متضمن لجميع الأوصاف التي منها وصف الأنعام والزرق والشكر، ليس على هذا الإذن الخاص، بل يشكر على سائر الإنعامات والامتنانات التي منها هذا الامتنان الخاص. وجاء هنا تعدية الشكر باللام، وقد تقدم الكلام على ذلك.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧٧
وتضمنت هذه الآية أمرين : الأول :﴿كُلُوا ﴾، قالوا : وهو عند دفع الضرر واجب، ومع الضيف مندوب إليه، وإذا خلا عن العوارض كان مباحاً، وكذا هو في الآية. والثاني :﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ﴾، وهو أمر وليس بإباحة. قيل : ولا يمكن القول بوجوب الشكر، لأنه إما أن يكون بالقلب، أو باللسان، أو بالجوارح. فبالقلب هو العلم بصدور النعمة من المنعم، أو العزم على تعظيمه باللسان، أو الجوارح. أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل، فإن العاقل لا ينسى ذلك. فإذا كان ذلك العلم ضرورياً، فكيف يمكن إيجابه ؟ وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح، فذلك العزم القلبي تابع للإقرار اللساني والعمل بالجوارح. فإذا بينا أنهما لا يجبان، كان العزم بأن لا يجب أولى. وأما الشكر باللسان، فإما أن يفسر بالاعتراف له بكونه منعماً، أو بالثناء عليه. فهذا غير واجب بالاتفاق، بل هو من باب المندوبات. وأما الشكر بالجوارح والأعضاء، فهو أن يأتي بأفعال دالة على تعظيمه، وذلك أيضاً غير واجب. وقال غير هذا القائل الذي تلخص أنه يجب اعتقاد كونه مستحقاً للتعظيم، وإظهارذلك باللسان أو سائر الأفعال إن وجدت هناك. وهذا البحث في وجوب الشكر أو عدم وجوبه، كان يناسب في أول شكر أمر به وهو قوله :﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾.


الصفحة التالية
Icon