﴿إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ : من ذهب إلى أن معناها معنى إذ، فقوله ضعيف، وهو قول كوفي، ولا يراد بالشرط هنا إلا التثبت والهز للنفوس، وكأن المعنى : العبادة له واجبة، فالشكر له واجب، وذلك كما تقول لمن هو متحقق العبودية إن كنت عبدي فأطعني، لا تريد بذلك التعليق المحض، بل تبرزه في صورة التعليق، ليكون أدعى للطاعة وأهزلها. وقيل : عبر بالعبادة عن العرفان، كما قال :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾. قيل : معناه ليعرفون، فيكون المعنى : أشكروا الله إن كنتم عارفين به وبنعمه، وذلك من إطلاق الأثر على المؤثر. وقيل : عبر بالعبادة عن إرادة العبادة، أي اشكروا الله إن كنتم تريدون عبادته، لأن الشكر رأس العبادات. وقال الزمخشري : إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم يقول الله تعالى : إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري. انتهى كلامه. وإيا هنا مفعول مقدم، وقدم لكون العامل فيه وقع رأس آية، وللاهتمام به والتعظيم لشأنه، لأنه عائد على الله تعالى، كما في قولك :﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وهذا من الموضع التي يجب فيها انفصال الضمير، وهو إذا تقدم على العامل أو تأخر، لم
٤٨٥
ينفصل إلا في ضرورة، قال :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧٧
إليك حتى بلغت إياكا
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِا لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ : تقدم الكلام على إنما في قوله :﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾. وقرأ الجمهور : حرم مسنداً إلى ضمير اسم الله، وما بعده نصب، فتكون ما مهيئة في إنما هيأت إن لولايتها الجملة الفعلية. وقرأ ابن أبي عبلة : برفع الميتة وما بعدها، فتكون ما موصولة اسم إن، والعائد عليها محذوف، أي إن الذي حرمه الله الميتة، وما بعدها خبران. وقرأ أبو جعفر : حرم، مشدداً مبنياً للمفعول، فاحتملت ما وجهين : أحدهما : أن تكون موصولة اسم إن، والعائد الضمير المستكن في حرم والميتة خبران. والوجه الثاني : أن تكون ما مهيئة والميتة مرفوع بحرم. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : إنما حرم، بفتح الحاء وضم الراء مخففة جعله لازماً، والميتة وما بعدها مرفوع. ويحتمل ما الوجهين من التهيئة والوصل، والميتة فاعل يحرم، إن كانت ما مهيئة، وخبر إن، إن كانت ما موصولة. وقرأ أبو جعفر : الميتة، بتشديد الياء في جميع القرآن، وهو أصل للتخفيف. وقد تقدم الكلام على هذا التخفيف في قوله :﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾، وهما لغتان جيدتان، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله :
ليس من مات فاستراح بميتإنما الميت ميت الأحياء
قيل : وحكى أبو معاذ عن النحويين الأولين، أن الميت بالتخفيف : الذي فارقته الروح، والميت بالتشديد : الذي لم يمت، بل عاين أسباب الموت. وقد تقدم الكلام في الموت. ولما أمر تعالى : بأكل الحلال في الآية السابقة، فصل هنا أنواع الحرام، وأسند التحريم إلى الميتة. والظاهر أن المحذوف هو الأكل، لأن التحريم لا يتعلق بالعين، ولأن السابق المباح هو الأكل في قوله :﴿كُلُوا مِمَّا فِى الارْضِ حَلَـالا طَيِّبًا﴾. فالممنوع هنا هو الأكل، وهكذا حذف المضاف يقدر بما يناسب. فقوله :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ﴾، المحذوف : وطء، كأنه قيل : وطء أمهاتكم، ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ﴾، أي وطء ما وراء ذلكم. فسائر وجوه الانتفاعات محرم من هذه الأعيان المذكورة، إما بالقياس على الأكل عند منيقول بالقياس، وإما بدليل سمعني عند من لا يقول به.
وقال بعض الناس ما معناه : أنه تعالى لما أسند التحريم إلى الميتة، وما نسق عليها وعلقه بعينها، كان ذلك دليلاً على تأكيد حكم التحريم وتناول سائر وجوه المنافع، فلا يخص شيء منها إلا بدليل يقتضي جواز الانتفاع به، فاستنبط هذا القول تحريم سائر الانتفاعات من اللفظ. والأظهر ما ذكرناه من تخصص المضاف المحذوف بأنه الأكل. وظاهر لفظ الميتة يتناول العموم، ولا يخص شيء منها إلا بدليل. قال قوم : خص هذا العموم بقوله تعالى :﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُه مَتَـاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾، وبما روي من قوله صلى الله عليه وسلّم :"أحلت لنا ميتتان". وقال ابن عطية : الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم. انتهى. فإن عنى لم يدخل في دلالة اللفظ، فلا نسلم له ذلك. وإن عنى لم يدخل ففي الإرادة، فهو كما قال، لأن المخصص يدل على أنه لم يرد به الدخول في اللفظ العام الذي خصص به.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٧٧


الصفحة التالية
Icon