قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي : الضلالة : الكفر، والهدى : الإيمان، وقبل الشك واليقين، وقيل الجهل والعلم، وقيل الفرقة والجماعة، وقيل الدنيا والآخرة، وقيل النار والجنة. وعطف : فما ربحت، بالفاء، يدل على تعقب نقي الربح للشراء، وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح. وزعم بعض الناس أن الفاء في قوله :﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَـارَتُهُمْ﴾ دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء والتقديران اشتروا. والذين إذا كان في صلة فعل، كان في معنى الشرط، ومثله ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾، وقع الجواب بالفاء في قوله :﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾، وكذلك الذي يدخل الدار فله درهم، انتهى. وهذا خطأ لأن الذين ليس مبتدأ، فيشبه بالشرط الذي يكون مبتدأ، فتدخل الفاء في خبره، كما ندخل في جواب الشرط. وأما الذين خبر عن أولئك، وقوله : فما ربحت ليس بخبر، فتدخله الفاء، وإنما هي جملة فعليه معطوفة على صلة الذين، فهي صلة لأن المعطوف على الصلة صلة، وقوله وقع الجواب بالفاء في قوله :﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ﴾ خطأ، لأنه ليس بجواب، إنما الجملة خبر المبتدأ الذي هو ينفقون، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين اشتروا مبتدأ، وفما ربحت تجارتهم خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك لعدم الرابط في هذه الجملة الواقعة خبراً لأولئك. ولتحقق مضي الصلة، وإذا كانت الصلة ماضية، معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها المبتدأ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين بدل منه، وفما ربحت خبر لأن الخبر إنما تدخله الفاء لعموم الموصول، ولإبدال الذين من أولئك، صار الذين مخصوصاً لأنه بدل من مخصوص، وخبر المخصوص لا تدخله الفاء، ولأن معنى الآية ليس إلا على كون أولئك مبتدأ والذين خبراً عنه. ونسبة الريح إلى التجارة من باب المجاز لأن الذي يربح أو يخسر إنما هو التاجر لا التجارة، ولما صور الضلالة والهدى مشترى وثمناً، رشح هذا المجاز البديع بقوله تعالى :﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَـارَتُهُمْ﴾، وهذا من باب ترشيح المجاز، وهو أن يبرز المجاز في صورة الحقيقة، ثم يحكم عليه ببعض أوصاف الحقيقة، فينضاف مجازاً إلى مجاز، ومن ذلك قول الشاعر :
بكى الخز من روح وأنكر جلدهوعجت عجيجاً من جذام المطارف
أقام الخز مقام شخص حين باشر روحاً بكى من عدم ملامته، ثم رشحه بقوله : وأنكر جلده، ثم زاد في ترشيح المجاز بقوله : وعجب، أي وصاحت مطارف الخز من قبيل روح هذا، وهي : جذام. ومعنى البيت : أن روحاً وقبيلته جذام لا يصلح لهم لباس الخز ومطارقه، لأنهم لا عادة لهم بذلك، فكنى عن التباين بينهما بما كنى فيه في البيت، ومن ذلك قول الشافعي، رضي الله عنه :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٦٠
أيا بومة قد عششت فوق هامتيعلى الرغم مني حين طار غرابها
٧٢
لما كنى عن الشيب بالبومة فأقبل عليها وناداها، رشح هذا المجاز بقوله : قد عششت، لأن الطائر من أفعاله اتخاذ العشة، وقد أورد الزمخشري في ترشيح المجاز في كشافه مثلاً. وقرأ ابن أبي عبلة : تجاراتهم، على الجمع، ووجهه أن لكل واحد تجارة، ووجه قراءة الجمهور على الأفراد أنه اكتفى به عن الجمع لفهم المعنى، وفي قوله : فما ربحت تجارتهم، إشعار بأن رأس المال لم يذهب بالكلية، لأنه إنما نفى الربح، ونفي الربح لا يدل على انتقاص رأس المال. وأجيب عن هذا بأنه اكتفى بذكر عدم الربح عن ذكر ذهاب المال، لما في الكلام من الدلالة على ذلك، لأن الضلال نقيض الهدى، والنقيضان لا يجتمعان، فاستبدالهم الضلالة بالهدى دل على ذهاب الهدى بالكلية، ويتخرج عندي على أن يكون من باب قوله :
علي لا حب لا يهتدي بمناره


الصفحة التالية
Icon