وفي الوجوه الأربعة السابقة لا يتعين أن تكون الأوصاف الثلاثة من أوصاف المنافقين، إذ هي متعلقة في العمل بما قبلها، وما قبلها الظاهر أنه من أوصاف المستوقدين، إلا إن جعل الكلام في حال المستوقد قد تم عند قوله :﴿فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾، وكان الضمير في نورهم يعود على المنافقين، فإذ ذاك تكون الأوصاف الثلاثة لهم. وأما في الوجه الخامس فيظهر أنها من أوصاف المنافقين، لأنها حالة الرفع من أوصافهم. ألا ترى أن التقدير هم صم، أي المنافقون ؟ فكذلك في النصب. ونص بعض المفسرين على ضعف النصب على الذم، ولم يبين جهة الضعف، ووجهه : أن النصب على الذم إنما يكون حيث يذكر الإسم السابق فتعدل عن المطابقة في الإعراب إلى القطع، وهاهنا لم يتقدم اسم سابق تكون هذه الأوصاف موافقة له في الإعراب فتقطع، فمن أجل هذا ضعف النصب على الذم. فهم لا يرجعون : جملة خبرية معطوفة على جملة خبرية، وهي من حيث المعنى مترتبة على الجملة السابقة ومتعقبتها، لأن من كانت فيه هذه الأوصاف الثلاثة، التي هي كناية عن عدم قبول الحق، جدير أن لا يرجع إلى إيمان. فإن كانت الآية في معنيين، فذلك واضح، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يرجع إلى الإيمان لا يرجع أبداً، وإن كانت في غير معنيين فذلك مقيد بالديمومة على الحالة التي وصفهم الله بها. قال قتادة، ومقاتل : لا يرجعون عن ضلالهم، وقال السدي : لا يرجعون إلى الإسلام، وقيل : لا يرجعون عن الصم والبكم والعمى، وقيل : لا يرجعون إلى ثواب الله، وقيل : عن التمسك بالنفاق، وقيل : إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، وأسند عدم الرجوع إليهم لأنه لما جعل تعالى لهم عقولاً للهداية، وبعث إليهم رسلاً بالبراهين القاطعة، وعدلوا عن ذلك إلى اتباع أهوائهم، والجري على مألوف آبائهم، كان عدم الرجوع من قبل أنفسهم. وقد قدمنا أن فعل العبد ينسب إلى الله اختراعاً وإلى العبد لملابسته له، ولذلك قال في هذه الآية :
٨٢
﴿صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾، فأضاف هذه الأوصاف الذميمة إلى ملابسها وقال تعالى :﴿أَوالَئاِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَـارَهُمْ﴾، فأضاف ذلك إلى الموجد تعالى. وهذه الأقاويل كلها على تقدير أن يكون الرجوع لازماً، وإن كان متعدياً كان المفعول محذوفاً تقديره فهم لا يرجعون جواباً}.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٤
﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَـاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ أو، لها خمسة معان : الشك، والإبهام، والتخيير، والإباحة، والتفصيل. وزاد الكوفيون أن تكون بمعنى الواو وبمعنى بل، وكان شيخنا أبو الحسن بن الصائغ يقول : أو لأحد الشيئين أو الأشياء. وقال السهيلي : أو للدلالة على أحد الشيئين من غير تعيين، ولذلك وقعت في الخبر المشكوك فيه من حيث أن الشك تردد بين أمرين من غير ترجيح، لا أنها وضعت للشك، فقد تكون في الخبر، ولا شك إذا أبهمت على المخاطب. وأما التي للتخيير فعلى أصلها لأن المخير إنما يريد أحد الشيئين، وأما التي زعموا أنها للإباحة فلم تؤخذ الإباحة من لفظ أو ولا من معناها، إنما أخذت من صيغة الأمر مع قرائن الأحوال، وإنما دخلت لغلبة العادة في أن المشتغل بالفعل الواحد لا يشتغل بغيره، ولو جمع بين المباحين لم يعص، علماً بأن أو ليست معتمدة هنا. الصيب : المطر، يقال : صاب يصوب فهو صيب إذا نزل والسحاب أيضاً، قال الشاعر :
حتى عفاها صيب ودقهداني النواحي مسبل هاطل
وقال الشماخ :
وأشحم دان صادق الرعد صيب
ووزن صيب فيعل عند البصريين، وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين، إلا ما شذ في الصحيح من قولهم : صيقل بكسر القاف علم لامرأة، وليس وزنه فعيلاً، للفراء. وقد نسب هذا المذهب للكوفيين وهي مسألة يتكلم عليها في علم التصريف. وقد تقدم الكلام على تخفيف مثل هذا السماء : كل ما علاك من سقف ونحوه، والسماء المعروفة ذات البروج، وأصلها الواو لأنها من السمو، ثم قد يكون بينها وبين المفرد تاء تأنيث. قالوا : سماوة، وتصح الواو إذ ذاك لأنها بنيت عليها الكلمة، قال العجاج :
طيّ الليالي زلفاً فزلفاسماوة الهلال حتى احقوقفا
والسماء مؤنث، وقد يذكر، قال الشاعر :
فلو رفع السماء إليه قومالحقنا بالسماء مع السحاب
والجنس الذي ميز واحده بتاء، يؤنثه الحجازيون، ويذكره التميميون وأهل نجد، وجمعهم لها على سموات، وعلى أسمية، وعلى سماء. قال : فوق سبع سمائنا شاذ لأنه، أولاً : اسم جنس فقياسه أن لا يجمع، وثانياً : فجمعه بالألف والتاء ليس فيه شرط ما يجمع بهما قياساً، وجمعه على أفعله ليس مما ينقاس في المؤنث، وعلى فعائل لا ينقاس في فعال.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٣


الصفحة التالية
Icon