والتضعيف في بشر من التضعيف الدال على لتكثير فيما قال بعضهم، ولا يتأتى التكثير في بشر إلا بالنسبة إلى المفاعيل، لأن البشارة أول خبر يسر أو يحزن على المختار، ولا يتأتى التكثير فيه بالنسبة إلى المفعول الواحد، فبالنسبة إليه يكون فعل فيه مغنياً عن فعل، لأن الذي ينطق به مشدداً غير العرب الذين ينطقون به مخففاً، كما بينا قبل. وكون مفعول بشر موصولاً بجملة فعلية ماضية ولم يكن اسم فاعل، دلالة على أن مستحق التبشير بفضل الله من وقع منه الإيمان وتحقق به وبالأعمال الصالحة. والصالحات : جمع صالحة، وهي صفة جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل، قال الحطيئة :
كيف الهجاء وما ينفك صالحةمن آل لام بظهر الغيب تأتيني
فعلى هذا انتصابها على أنها مفعول بها، والألف واللام في الصالحات للجنس لا للعموم، لأنه لا يكاد يمكن أن يعمل المؤمن جميع الصالحات، لكن يعمل جملة من الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف. والفرق بين لام الجنس إذا دخلت على المفرد، وبينها إذا دخلت على الجمع، أنها في المفرد يحتمل أن يراد بها واحد من الجنس، وفي الجمع لا يحتمله. قال عثمان بن عفان : الصالح ما أخلص لله تعالى، وقال معاذ بن جبل : ما احتوى على أربعة : العلم والنية والصبر والإخلاص، وقال سهل بن عبد الله : ما وافق الكتاب والسنة، وقال علي بن أبي طالب : الصلوات في أوقاتها وتعديل أركانها وهيئاتها، وقيل : الأمانة، وقيل : التوبة والاختيار، قول الجمهور : وهو كل عمل صالح أريد به الله. قال ابن عطية : وفي قوله تعالى :﴿وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ ردّ على من يقول : إن لفظة الإيمان
١١١
بمجردها تقتضي الطاعات، لأنه لو كان ذلك ما أعادها، انتهى كلامه. وفي ذلك أيضاً دليل على أن الذين أمر الله بأن يبشروا هم من جمعوا بين الإيمان والأعمال الصالحات، وأن من اقتصر على الإيمان فقط دون الأعمال الصالحات لا يكون مبشراً.
من هذه الآية : وبشر يتعدى لمفعولين : أحدهما بنفسه، والآخر بإسقاط حرف الجر. فقوله :﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّـاتٍ﴾ هو في موضع هذا المفعول، وجاز حذف حرف الجر مع أن قياساً مطرداً، واختلفوا بعد حذف الحرف، هل موضع أن ومعموليها جر أم نصب ؟ فمذهب الخليل والكسائي : أن موضعه جر، ومذهب سيبويه والفراء : أن موضعه نصب، والاستدلال في كتب النحو. وجنات : جمع جنة، جمع قلة، فروي عن ابن عباس أنها سبع جنات. وقال قوم : هي ثمان جنات. وزعم بعض المفسرين أن في تضاعيف الكتاب والسنة ما يدل على أنها أكثر من العدد الذي أشار إليه ابن عباس وغيره، قال : فإنه قال :﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَنَهَرٍ﴾، ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِا جَنَّتَانِ﴾، ﴿وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾، ﴿عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴾، ﴿جَنَّـاتِ عَدْنٍ﴾. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم قال :"جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما، وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" وهذا الذي أورده هذا المفسر لا يدل على أنها أكثر مما روي عن ابن عباس.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٠٩
وقال الزمخشري : الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان، انتهى كلامه. وقد دس فيه مذهبه الاعتزالي بقوله : على حسب استحقاق العاملين. وقد جاء في القرآن ذكر الجنة مفردة ومجموعة، فإذا كانت مفردة فالمراد الجنس، واللام في لهم للاختصاص، وتقديم الخبر هنا آكد من تقديم المخبر عنه لقرب عود المضير على الذين آمنوا، فهو أسر للسامع، والشائع أنه إذا كان الاسم نكرة تعين تقديمه ﴿إِنَّ لَنَا لاجْرًا﴾، ولم يذكر في الآية الموافاة على الإيمان فإن الردة تحبطه، وذلك مفهوم من غير هذه الآية. وأما الزمخشري فجرى على مذهبه الاعتزالي من أنه يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل، أن لا يحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر، وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية، وزعم أن اشتراط ذلك كالداخل تحت الذكر.


الصفحة التالية
Icon