﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي : من كتب الأنبياء، وتصديقه إياها أنها أخبرت بمجيئه، ووقوع المخبر به يجعل المخبر صادقاً، وهو يدل على صحة القرآن، لأنه لو كان من عند غير الله لم يوافقها، قاله أبو مسلم وقيل : المراد منه أنه لم يبعث نبياً قط، إلاَّ بالدعاء إلى توحيده، والإيمان، وتنزيهه عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان، والشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان. فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك، والقرآن، وإن كان ناسخاً لشرائع أكثر الكتب، فهي مبشرة بالقرآن وبالرسول، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلّم، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن. فقد وافقت القرآن، وكان مصدقاً لها، ن الدلائل الدالة على ثبوت الإلهية لا تختلف.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
وانتصاب : مصدقاً، على الحال من
٣٧٧
الكتاب، وهي حال مؤكدة، وهي لازمة، لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه، فهو كما قال :
أنا ابن دارة معروفاً به نسبيوهل بدارة يا للناس من عار ؟ وقيل : انتصاب : مصدقاً، على أنه بدل من موضع : بالحق، وقيل : حال من الضمير المجرور. و: لما، متعلق بمصدقاً، واللام لتقوية التعدية، إذ : مصدقاً، يتعدى بنفسه، لأن فعله يتعدى بنفسه. والمعنى هنا بقوله ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ المتقدم في الزمان. وأصل هذا أن يقال لما يتمكن الإنسان من التصرف فيه. كالشيء الذي يحتوي عليه، ويقال : هو بين يديه إذا كان قدامه غير بعيد.
﴿وَأَنزَلَ التَّوْرَاةِ وَالانجِيلَ * مِن قَبْلُ﴾ فخم راء التوراة : ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وأضجعها : أبو عمرو، والكسائي. وقرأها بين اللفظين : حمزة، ونافع وروي المسيبي عن نافع فتحها.
وقرأ الحسن : والأنجيل، بفتح الهمزة، وهذا يدل على أنه أعجمي، لأن أفعيلاً ليس من أبنية كلام العرب، بخلاف إفعيل، فإنه موجود في أبنيتهم : كإخريط، وإصليت.
وتعلق : من قبل، بقوله : وأنزل، والمضاف إليه المحذوف هو الكتاب المذكور، أي : من قبل الكتاب المنزل عليك وقيل : التقدير من قبلك، فيكون المحذوف ضمير الرسول. وغاير بين نزل وأنزل، وإن كانا بمعنى واحد، إذ التضعيف للتعدية، كما أن الهمزة للتعدية.
وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل : نزل الكتاب، وأنزل التوراة والإنجيل ؟.
قلت لأن القرآن نزل منجماً، ونزل الكتابان جملة. انتهى. وقد تقدم الرد على هذا القول. وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير، ولا التنجيم، وقد جاء في القرآن : نزل وأنزل، قال تعالى :﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾ و﴿الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ﴾ ويدل على أنهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ما كان : ممن ينزل، مشدداً بالتخفيف، إلاَّ ما استثني، فلو كان أحدهما يدل على التنجيم، والآخر يدل على النزول دفعة واحدة، لتناقض الإخبار. وهو محال.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ قيل : هو قيد في الكتاب والتوراة والإنجيل. والظاهر أنه قيد في التوراة والإنجيل، ولم يثن لأنه مصدر. وقيل : هو قيد في الإنجيل وحده، وحذف من التوراة، ودل عليه هذا القول الذي للإنجيل وقيل : تم الكلام عند قوله ﴿مِن قَبْلُ﴾ ثم استأنف فقال ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ فيكون الهدى للفرقان فحسب، ويكون على هذا الفرقان القرآن، وهذا لا يجوز، لأن هدى إذ ذاك يكون معمولاً لقوله : وأنزل الفرقان هدى، وما بعد حرف العطف لا يتقدم عليه، لو قلت : ضربت زيداً، مجردةٍ و: ضربت هنداً، تريد، وضربت هنداً مجردة لم يجز، وانتصابه على الحال. وقيل : هو مفعول من أجله، والهدى : هو البيان، فيحتمل أن يراد أن التوراة والإنجيل هدى بالفعل، فيكون الناس هنا مخصوصاً، إذا لم تقع الهداية لكل الناس، ويحتمل أن يكون أراد أنهما هدىً في ذاتهما، وأنهما داعيان للهدى، فيكون الناس عاماً، أي : هما منصوبان وداعيان لمن اهتدى بهما، ولا يلزم من ذلك وقوع الهداية بالفعل لجميع الناس وقيل : الناس قوم موسى وعيسى وقيل : نحن متعبدون بشرائع من قبلنا، فالناس عام. قال الكعبي : هذا يبطل قول من زعم أن القرآن عمى على الكافر، وليس هدى له، ويدل على أن معنى ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ أنهم عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز، لقوله نوح، ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلا فِرَارًا﴾ انتهى.
قيل : وخص الهدى بالتوراة والإنجيل هنا، وإن كان القرآن هدىً، لأن المناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن، بل وصف بأنه حق في نفسه، قبلوه أو لم يقبلوه، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما، فلذلك اختصا في الذكر بالهدى.
قال ابن عطية : قال هنا للناس، وقال في القرآن هدى للمتقين، لأن هذا خبر مجرّد، و: هدى للمتقين، خبر مقترن به الاستدعاء، والصرف إلى الإيمان، فحسنت الصفة ليقع من السامع النشاط والبدار، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في
٣٧٨


الصفحة التالية
Icon