القلب، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء، أو الهدى الذي هو في نفسه معدٌّ أن يهتدي به الناس، فسمي هدى بذلك.
قال ابن فورك : التقدير هنا : هدى للناس المتقين، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص، وفي هذا نظر. انتهى كلام ابن عطية. وملخصه : أنه غاير بين مدلولي الهدى، فحيث كان بالفعل ذكر المتقون، وحيث كان بمعنى الدعاء، أو بمعنى أنه هدى في ذاته، ذكر العام.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
وأما الموضعان فكلاهما خبر لا فرق في الخبرية بين قوله ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِا هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ وبين قوله :﴿وَأَنزَلَ التَّوْرَااةِ وَالانجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ﴾.
﴿وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ الفرقان : جنس الكتب السماوية، لأنها كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل، من كتبه أو من هذه الكتب، أو أراد الكتاب الرابع، وهو الزبور. كما قال تعالى :﴿وَءَاتَيْنَا دَاوُادَ زَبُورًا﴾ أو الفرقان : القرآن، وكرر ذكره بما هو نعت له ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل، بعدما ذكره باسم الجنس تعظيماً لشأنه، واظهاراً لفضله. واختار هذا القول الأخير ابن عطية. قال محمد بن جعفر : فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام الذي جادل فيه الوفد. وقال قتادة، والربيع، وغيرهما : فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع، وفي الحلال والحرام، ونحوه وقيل : الفرقان : كل أمر فرق بين الحق والباطل فيما قدم وحدث، فدخل في هذا التأويل : طوفان نوح، وفرق البحر لغرق فرعون، ويوم بدر، وسائر أفعال الله المفرقة بين الحق والباطل وقيل : الفرقان : النصر. وقال الرازي : المختار أن يكون المراد بالفرقان هنا المعجزات التي قرنها الله بالإنزال هذه الكتب، لأنهم إذا ادعو أنها نازلة من عند الله افتقروا إلى، تصحيح دعواهم بالمعجزات، وكانت هي الفرقان، لأنها تفرق بين دعوى الصادق والكاذب، فلما ذكر أنه أنزلها، أنزل معها ما هو الفرقان. وقال ابن جرير : أنزل بإنزال القرآن الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب وأهل الملل. وقيل : الفرقان : هنا الأحكام التي بينها الله ليفرق بها بين الحق والباطل.
فهذه ثمانية أقوال في تفسير الفرقان. والفرقان مصدر في الأصل، وهذه التفاسير تدل على أنه أريد به اسم الفاعل، أي : الفارق، ويجوز أن يراد به المفعول أي : المفروق. قال تعالى :﴿وَقُرْءَانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَه عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاَايَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ لما قرر تعالى أمر الإلهية، وأمر النبوّة بذكر الكتب المنزلة، توعد من كفر بآيات الله من كتبه المنزلة، وغيرها، بالعذاب الشديد من عذاب الدنيا، كالقتل، والأسر. والغلبة، وعذاب الآخرة : كالنار.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
و ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ عام داخل فيه من نزلت الآيات بسببهم، وهم نصارى وفد نجران. وقال النقاش : إشارة إلى كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وبني أخطب وغيرهم.
﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾ أي : ممتنع أو غالب لم لا يغلب، أو منتصر ذو عقوبة، وقد تقدّم أن الوصف : بذو، أبلغ من الوصف بصاحب، ولذلك لم يجيء في صفات الله صاحب، وأشار بالعزة إلى القدرة التامة التي هي من صفات الذات، وأشار بذي انتقام، إلى كونه فاعلاً للعقاب، وهي من صفات الفعل.
قال الزمخشري :﴿ذُو انتِقَامٍ﴾ له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم. انتهى. ولا يدل على هذا الوصف لفظ : ذو انتقام، إنما يدل على ذلك من خارج اللفظ.
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ شيء نكرة في سياق النفي، فتعم، وهي دالة على كمال العلم بالكليات والجزئيات، وعبر عن جميع العالم بالأرض والسماء، إذ هما أعظم ما نشاهده، والتصوير على ما شاء من الهيئات دال على كمال القدرة، وبالعلم والقدرة يتم معنى القيومية، إذ هو القائم بمصالح الخلق ومهماتهم، وفي ذلك ردّ على النصارى، إذ شبهتهم في إدعاء إلهية عيسى كونه : يخبر بالغيوب، وهذا راجع إلى العلم، وكونه : يحيي الموتى، وهو راجع إلى القدرة. فنبهت الآية
٣٧٩
على أن الإله هو العالم بجميع الأشياء، فلا يخفي عليه شيء، ولا يلزم من كون عيسى عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلها، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن عالماً بجميع المعلومات، ونبهت على أن الإله هو ذو القدرة التامة، فلا يمتنع عليه شيء، ولا يلزم من كون عيسى قادراً على الإحياء في بعض الصور أن يكون إلهاً، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن قادراً على تركيب الصور وإحيائها، بل إنباؤه ببعض المغيبات، وخلقه وأحياؤه بعض الصور، إنما كان ذلك بإنباء الله له على سبيل الوحي، وإقداره تعالى له على ذلك، وكلها على سبيل المعجزة التي أجراها، وأمثالها، على أيدي رسله.


الصفحة التالية
Icon