وفي الذكر التصوير في الرحم ردّ على من زعم أن عيسى إله، إذ من المعلوم بالضرورة أنه صور في الرحم.
وقيل : في قوله ﴿لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ﴾ تحذير من مخالفته سراً وجهراً، ووعيد بالمجازاة وقيل : المعنى شيء مما يقولونه في أمر عيسى عليه السلام. وقال الزمخشري : مطلع على كفر من كفر، وإيمان من آمن، وهو مجازيهم عليه. وقال الماتريدي : لا يخفى عليه شيء من الأمور الخفية عن الخلق، فكيف تخفي عليه أعمالكم التي هي ظاهرة عندكم ؟ وكل هذه تخصيصات. واللفظ عام، فيندرج فيه هذا كله. وقال الراغب : لا يخفى عليه شيء، أبلغ من : يعلم في الأصل، وإن كان استعمال اللفظين فيه يفيدان معنى واحداً.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
وقال محمد بن جعفر بن الزبير، والربيع، في قوله :﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ﴾ ردّ على أهل الطبيعة، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة كيف يشاء. قال الماتريدي : فيه إبطال قول من يجعل قول القائف حجة في دعوى النسب، لأنه جعل علم التصوير في الأرحام لنفسه، فكيف يعرف القائف أنه صوره من مائه عند قيام التشابه في الصور ؟ انتهى.
والأحسن أن تكون هذه الجمل مستقلة، فتكون الأولى : إخباراً عنه تعالى بالعلم التام، والثانية : إخباراً بالقدرة التامة وبالإرادة. والثالثة : بالإنفراد بالإلهية، ويحتمل أن يكون خبراً عن : أن.
وقال الراغب، هنا : يصوركم، بلفظ الحال، وفي موضع آخر : فصوركم، لأنه لا اعتبار بالأزمنة في أفعاله، وإنما استعملت الألفاظ فيه للدلالة على الأزمنة بحسب اللغات، وأيضاً : فصوركم، إنما هو على نسبة التقدير، وإن فعله تعالى في حكم ما قد فرع منه. ويصوركم على حسب ما يظهر لنا حالاً فحالاً. انتهى.
وقرأ طاووس : تصوركم، أي صوركم لنفسه ولتعبده. كقولك : أثلت مالاً، أي : جعلته أثلة. أي : أصلاً. وتأثلته إذا أثلته لنفسك وتأتي : تفعَّل، بمعنى : فعل، نحو : تولى، بمعنى : ولي.
ومعنى ﴿كَيْفَ يَشَآءُ﴾ أي : من الطول والقصر، واللون، والذكورة والأنوثة، وغير ذلك من الاختلافات. وفي قوله :﴿كَيْفَ يَشَآءُ﴾ إشارة إلى أن ذلك يكون بسبب وبغير سبب، لأن ذلك متعلق بمشيئته فقط.
و : كيف، هنا للجزاء، لكنها لا تجزم. ومفعول : يشاء، محذوف لفهم المعنى، التقدير : كيف يشاء أن يصوركم. كقوله ﴿يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ أي : كيف يشاء أن ينفق، و: كيف، منصوب : بيشاء، والمعنى : على أي حال شاء أن يصوركم صوركم، ونصبه على الحال، وحذف فعل الجزاء لدلالة ما قبله عليه، نحو قولهم : أنت ظالم إن فعلت، التقدير : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب، وإن كانت متعلقة بما قبلها في المعنى، فتعلقها كتعلق إن فعلت، كقوله : أنت ظالم.
وتفكيك هذا الكلام وإعرابه على ما ذكرناه، لا يهتدى له إلاَّ بعد تمرّن في الإعراب، واستحضار للطائف النحو.
وقال بعضهم ﴿كَيْفَ يَشَآءُ﴾ في موضع الحال، معمول : يصوركم ؛ ومعنى الحال أي : يصوركم في الأرحام قادراً على تصوريكم مالكاً ذلك وقيل : التقدير في هذه الحال : يصوركم على مشيئته، أي مريداً، فيكون حالاً من ضمير اسم الله، ذكره أبو البقاء، وجوّز أن يكون حالاً من المفعول، أي : يصوركم منقلبين على مشيئته.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
وقال الحوفي : يجوز أن تكون الجملة في موضع المصدر، المعنى : يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة، وكما يشاء.
﴿لا إله إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ كرر هذه
٣٨٠
الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى، وانحصارها فيه، توكيداً لما قبلها من قوله ﴿لا إله إِلا هُوَ﴾ ورداً على من ادعى إلهية عيسى، وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة، إذ مَن هذان الوصفان له، هو المتصف بالإلهية لا غيره، ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير، والحكمة الموجبة لتصوير الإشياء على الإتقان التام.
﴿هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَـابِ وَأُخَرُ مُتَشَـابِهَـاتٌ﴾ مناسبة هذا لما قبله أنه : لما ذكر تعديل البنية وتصويرها على ما يشاء من الأشكال الحسنة، وهذا أمر جسماني، استطرد إلى العلم، وهو أمر روحاني. وكان قد جرى لوفد نجران أن من شُبَهِهِمْ قوله ﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ فبيّن أن القرآن منه محكم العبارة قد صينت من الاحتمال، ومنه متشابه، وهو ما احتمل وجوهاً.
ونذكر أقاويل المفسرين في المحكم والمتشابة.