ولما ذكر تعالى أول السورة ﴿اللَّهُ لا إله إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ﴾ ذكر هنا كيفية الكتاب، وأتى بالموصول، إذ في صلته حوالة على التنزيل السابق، وعهد فيه. وقوله :﴿مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ﴾ إلى آخره، في موضع الحال، أي : تركه على هذين الوجهين محكماً ومتشابهاً، وارتفع : آيات، على الفاعلية بالمجرور لأنه قد اعتمد، ويجوز ارتفاعه على الإبتداء، والجملة حالية. ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة، ووصف الآيات بالأحكام صادق على أن كل آية محكمة، وأما قوله :﴿وَأُخَرُ مُتَشَـابِهَـاتٌ﴾ فأُخر صفة لآيات محذوفة، والوصف بالتشابه لا يصح في مفرد آخر، لو قلت : وأخرى متشابهة لم يصح إلاَّ بمعنى أن بعضها يشبه بعضاً، وليس المراد هنا هذا المعنى، وذلك أن التشابه المقصود هنا لا يكون إلاَّ بين اثنين فصاعداً، فلذلك صح هذا الوصف مع الجمع، لأن كل واحد من مفرداته يشابه الباقي، وإن كان الواحد لا يصح فيه ذلك، فهو نظير، رجلين يقتتلان، وإن كان لا يقال : رجل يقتتل.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
وتقدم الكلام على أخر في قوله :﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ فاغنى عن إعادته هنا.
وذكر ابن عطية أن المهدوي خلط في مسألة : أخر، وأفسد كلام سيبوية، فتوقف على ذلك من كلام المهدوي.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ هم نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى، قاله الربيع. أو : اليهود، قاله ابن عباس، والكلبي، لأنهم طلبوا بقاء هذه الآية من الحروف المقعطة والزيغ : عنادهم.
وقال الطبري : هو الأشبه. وذكر محاورة حي بن أخطب وأصحابه لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في مدة ملته، واستخراج ذلك من الفواتح، وانتقالهم من عدد إلى عدد إلى أن قالوا : خلطت علينا فلا ندري بكثير نأخذ أم بقليل ؟ ونحن لا نؤمن بهذا. فأنزل الله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ﴾ الآية، وفسر الزيغ : بالميل عن الهدى، ابن مسعود، وجماعة من الصحابة، ومجاهد، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وغيرهم.
وقال قتادة : هم منكرو البعث، فإنه قال في آخرها ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُا إِلا اللَّهُ﴾ وما ذاك إلاَّ يوم القيامة، فإنه أخفاه عن جميع الخلق. وقال قتادة أيضاً : هم الحرورية، و: هم الخوارج. ومن تأول آية لا في محلها. وقال أيضاً : إن لم تكن الحرورية هم الخوارج السبائية، فلا أدرى من هم.
وقال ابن جريح : هم المنافقون. وقيل : هم جميع المبتدعة.
وظاهر اللفظ العموم في الزائغين عن الحق، وكل طائفة ممن ذكر زائغة عن الحق، فاللفظ يشملهم وإن كان نزل على سبب خاص، فالعبرة لعموم اللفظ.
﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـابَهَ مِنْهُ﴾ قال القرطبي : متبعو المتشابه إما طالبو تشكيك وتناقض وتكرير، وإما طالبو ظواهر المتشابه : كالمجمسة إذ أثبتوا أنه جسم، وصورة ذات وجه، وعين ويد وجنب ورجل وأصبع. وإما متبعو إبداء تأويل وإيضاح معاينة، كما سأل رجل ابن عباس عن أشياء اختلفت عليه في القرآن، مما ظاهرها التعارض، نحو :﴿وَلا يَتَسَآءَلُونَ﴾ و﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ ﴿وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ ونحو ذلك. وأجابه ابن عباس بما أزال عنه التعارض، وإما متبعوه وسائلون عنه سؤال تعنت، كما جرى لأصيبغ مع عمر، فضرب عمر رأسه حتى جرى دمه على وجهه. إنتهى كلامه ملخصاً.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
﴿ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِا﴾ علل اتباعهم للمتشابه بعلتين :
إحداهما : إبتغاء الفتنة.
٣٨٣
قال السدي، وربيع، ومقاتل، وابن قتيبة : هي الكفر. وقال مجاهد : الشبهات واللبس. وقال الزجاج : إفساد ذات البين. وقيل : الشبهات التي حاج بها وفد نجران.
والعلة الثانية : إبتغاء التأويل. قال ابن عباس : ابتغوا معرفة مدة النبي صلى الله عليه وسلّم. وقيل : التأويل : التفسير، نحو ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ وقال ابن عباس أيضاً : طلبوا مرجع أمر المؤمنين، ومآل كتابهم ودينهم وشريعتهم، والعاقبة المنتظرة. وقال الزجاج : طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم تعالى : أن تأويل ذلك، ووقته يوم يرون ما يوعدون من البعث والعذاب، يقول الذين نسوه، أي تركوه : قد جاءت رسل ربنا، أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. وقال السدي : أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن، وهو تأويله متى ينسخ منه شيء. وقيل : تأويله طلب كنه حقيقته وعمق معانيه. وقال الفخر الرازي كلاماً ملخصه : إن المراد بالتأويل ما ليس في الكتاب دليل عليه، مثل : متى الساعة ؟ ومقادير الثواب والعقاب لكل مكلف ؟