ومجاز التشبيه في مواضع منها ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ﴾ وحقيقة النزول طرح جرم من علوٍ إلى أسفل، والقرآن مثمبت في اللوح الحفوظ، فلما أثبت في القلب صار بمنزلة جرم ألقي من علو إلى أسفل فشبه به، وأطلق عليه لفظ الإنزال وفي قوله :﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ القرآن مصدّق لما تقدّمه من الكتب، شبه بالإنسان الذي بين يديه شيء يناله شيئاً فشيئاً وفي قوله :﴿مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ أقام المصدر فيه مقام اسم الفاعل، فجعل التوراة كالرجل الذي يوري عنك أمراً، أي : يستره لما فيها من المعاني الغامضة، والإنجيل شبه لما فيه من اتساع الترغيب والترهيب والمواعظ والخضوع بالعين النجلاء، وجعل ذلك هدى لما فيه من الإرشاد، كالطريق الذي يهديك إلى المكان الذي ترومه، وشبه الفرقان بالجرم الفارق بين جرمين، وفي قوله :﴿عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ شبه ما يحصل للنفس من ضيق العذاب وألمه بالمشدود الموثق المضيق عليه، وفي قوله :﴿يُصَوِّرُكُمْ﴾ شبه أمره بقوله : كن أو تعلق إرادته بكونه جاء على غاية من الإحكام والصنع بمصوّر يمثل شيئاً، فيضم جرماً إلى جرم، ويصوّر منه صورة وفي قوله :﴿مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ﴾ جعل ما اتضح من معاني كتابه، وظهرت آثار الحكمة عليه محكماً، وشبه المحكم لما فيه من أصول المعاني التي تتفرّع منها فروع متعدّدة ترجع إليها بالأم التي ترجع إليها ما تفرّع من نسلها ويؤمونها، وشبه ما خفيت معانيه لاختلاف أنحائه كالفواتح، والألفاظ المحتملة معاني شتى، والأيات الدالة على أمر المعاد والحساب بالشيء المشتبه الملبس أمره الذي وجم العقل عن تكييفه ؛ وفي قوله :﴿فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ شبه القلب المائل عن القصد بالشيء الزائغ عن مكانه، وفي قوله :﴿وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً﴾ شبه المعقول من الرحمة عن إرادة الخير، بالمحسوس من الإجرام من العوض والمعوض في الهبة وفي قوله :﴿وَقُودُ النَّارِ﴾ شبهم بالحطب الذي لا ينتفع به إلاَّ في الوقود. وقال تعالى :﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ والحصب الحطب بلغة الحبشة، وفي قوله :﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ شبه إحاطة عذابه بهم بالمأخوذ باليد المتصرف فيه بحكم إرادة الأخذ.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٧٠
وقيل : هذه كلها استعارات، ولا تشبيه فيها إلاَّ ﴿كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ﴾ فإنه صرح فيه بذكر أداة التشبيه.
والاختصاص في مواضع، منها في قوله :﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ﴾ إلى ﴿وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ على من فسره بالزبور، واختص الأربعة دون بقية ما أنزل، لأن أصحاب الكتب إذ ذاك : المؤمنون، واليهود، والنصارى، وفي قوله :﴿لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ﴾ خصمهما لأنهما أكبر مخلوقاته الظاهرة لنا، ولأنهما محلان للعقلاء، ولأن منهما أكثر المنافع المختصة بعباده. وفي قوله :﴿وَالراَّسِخُونَ﴾ اختصهم بخصوصية الرسوخ في العلم بهم ؛ وفي قوله :﴿أُوْلُوا الالْبَـابِ﴾ لأن العقلاء لهم خصوصية التمييز، والنظر، والاعتيار. وفي قوله :﴿لا تُزِغْ قُلُوبَنَا﴾ اختص القلوب لأن بها صلاح الجسد وفساده، وليس كذلك بقية الأعضاء، ولأنها محل الإيمان ومحل العقل على قول من يقول ذلك، وفي قوله :﴿إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ﴾ وهو جامعهم في الدنيا على وجه الأرض أحياءً وفي بطنها أمواتاً، لأن في ذلك اليوم الجمع الأكبر، وهو الحشر، ولا يكون إلاَّ في ذلك اليوم، ولا جامع إلاَّ هو تعالى. وفي قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُم﴾ اختص الكفار لأن المؤمنين تغني عنهم أموالهم التي ينفقونها في وجوه البر، فهم يجنون ثمرتها في الآخرة، وتنفعهم
٣٩٠
أولادهم في الآخرة، يسقونهم ويكونون لهم حجاباً من النار، ويشفعون فيهم إذا ماتوا صغاراً، وينفعونهم بالدعاء الصالح كباراً. وكل هذا ورد به الحديث الصحيح.
وفي قوله :﴿كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ﴾ خصهم بالذكر، وقدمهم لأنهم أكثر الأمم طغياناً، وأعظمهم تعنتاً على أنبيائهم، فكانوا أشد الناس عذاباً.