قال الزمخشري : فإن قلت : ما المراد بأولي العلم، الذين عظمهم هذا التعظيم حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله ؟
قلت : هم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، وهم علماء العدل والتوحيد. انتهى.
ويعني بعلماء العدل والتوحيد : المعتزلة، وهم يسمون أنفسهم بهذا الاسم كما أنشدنا شيخنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي رحمه الله بقراءتي عليه قال : أنشدنا الصاحب أبو حامد عبد الحميد بن هبة بن محمد بن أبي الحديد المعتزلي ببغداد لنفسه :
لولا ثلاث لم أخف صرعتيليست كما قال فتى العبد
أن أنصر التوحيد والعدل فيكل مقام باذلاً جهدي
وأن أناجي الله مستمتعابخلوة أحلى من الشهد
وأن أتيه الدهر كبراً علىكل لئيم أصعر الخدّ
لذاك أهوى لا فتاة ولاخمر ولا ذي ميعة نهد
﴿لا إله إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ كرر التهليل توكيداً وقيل : الأول شهادة الله، والثاني شهادة الملائكة وأولي العلم، وهذا بعيد جدّاً لأنه يؤدّي إلى قطع الملائكة عن العطف على الله تعالى، وعلى إضمار فعل رافع، أو على جعلهم مبتدأ، وعلى الفصل بين ما يتعلق بهم وبين التهليل بأجنبي، وهو قوله :﴿قَآاِمَا بِالْقِسْطِ﴾.
وقيل : الأول جار مجرى الشهادة، والثاني جار مجرى الحكم وقيل : هذا الكلام ينطوي على مقدّمتين، وهذا هو نتيجتهما، فكأنه قال : شهد الله والملائكة وأولو العلم وما شهدوا به حق فلا إله إلا هو حق، فحذف إحدى المقدّمتين للدّلالة عليها، وهذا التقدير كله لا يساعد عليه اللفظ.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٩٨
وقال الراغب : إنما كرر ﴿لا إله إِلا هُوَ﴾ لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد لأن أكثرها مشارك في ألفاظها العبيد، فيصح وصفهم بها، وكذلك وردت ألفاظ التنزيه في حقه أكثر، وأبلغ ما وصف به من التنزيه : لا إله إلا الله، فتكريره هنا لأمرين : أحدهما : لكون الثاني قطعاً للحكم، كقولك :
٤٠٦
أشهد أن زيداً خارج، وهو خارج. والثاني : لئلا يسبق بذكر العزيز الحكيم إلى قلب السامع تشبيه، إذ قد يوصف بهما المخلوق انتهى.
وقال الزمخشري : صفتان مقرّرتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل، يعني أنه العزيز الذي لا يغالبه إله آخر، الحكيم الذي لا يعدل عن العدل في أفعاله. انتهى. وهو تحويم على مذهب المعتزلة.
وارتفع : العزيز، على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : والعزيز، على الاستئناف قيل : وليس بوصف، لأن الضمير لا يوصف، وليس هذا بالجمع عليه، بل ذهب الكسائي إلى أن ضمير الغائب كهذا يوصف.
وجوّزوا في إعراب : العزيز، أن يكون بدلاً من : هو. وروي في حديث عن الأعمش أنه قام يتهجد، فقرأ هذه الآية، ثم قال : وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة، إن الدين عند الله الإسلام قالها مراراً، فسئل، فقال : حدّثني أبو وائل، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : عبدي عهد إليّ وأنا أحق من وفى، أدخلوا عبدي الجنة".
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي : العزيز، إشارة إلى كمال القدرة، و: الحكيم، إشار، إلى كمال العلم، وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلهية إلاَّ معهما، لأن كونه ﴿قَآاِمَا بِالْقِسْطِ﴾ لا يتم إلاَّ إذا كان عالماً بمقادير الحاجات، فكان قادراً على تحصيل المهمات، وقدم العزيز في الذكر لأن العلم بكونه تعالى قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الاستدلالية، وهذا الخطاب مع المستدل. انتهى كلامه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٩٨
﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ﴾ أي الملة والشرع، والمعنى : إن الدين المقبول أو النافع أو المقرر.
قرأ الجمهور : إن، بكسر الهمزة وقرأ ابن عباس، والكسائي، ومحمد بن عيسى الأصبهاني : أن، بالفتح، وتقدّمت قراءة ابن عباس : شهد الله إنه، بكسر الهمزة، فأما قراءة الجمهور فعلى الاستئناف، وهي مؤكدة للجملة الأولى.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة هذا التوكيد ؟
قلت : فائدته أن قوله : لا إله إلاَّ هو توحيد، وقوله : قائماً بالقسط، تعديل، فإذا أردفه قوله : إن الدين عند الله الإسلام، فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده بشيء من الدين، وفيه أن من ذهب إلى تشبيه، أو ما يؤدّي إليه، كإجازة الرؤية، أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور، لم يكن على دينا لله الذي هو الإسلام، وهذا بيِّن جلي كما ترى. انتهى كلامه. وهو على طريقة المعتزلة من إنكار الرؤية، وقولهم : إن أفعال العبد مخلوقة له لا لله تعالى.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٠٧
وأما قراءة لكسائي ومن وافقه في نصب : أنه، وأن، فقال أبو علي الفارسي : إن شئت جعلته من بدل الشيء من
٤٠٧