الشيء وهو هو، ألا ترى أن الدين الذي هو الإسلام يتضمن التوحيد والعدل وهو هو في المعنى ؟ وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال، لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل. وقال : وإن شئت جعلته بدلاً من القسط، لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل، فيكون أيضاً من بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة. انتهت تخريجات أبي علي، وهو معتزلي، فلذلك يشتمل كلامه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل، وعلى البدل من أنه لا إله إلاَّ هو، خرجه غيره أيضاً وليس بجيد، لأنه يؤدي إلى تركيب بعيدٌ أن يأتي مثله في كلام العرب، وهو : عرف زيد أنه لا شجاع إلاَّ هو، و: بنو تميم، وبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل المحامي، إن الخصلة الحميدة هي البسالة. وتقريب هذا المثال : ضرب زيد عائشة، والعمران حنقاً أختك. فحنقاً : حال من زيد، وأختك بدل من عائشة، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف، وهو لا يجوز. وبالحال لغير المبدل منه، وهو لا يجوز، لأنه فصل بأجنبي بين المبدل منه والبدل. وخرجها الطبري على حذف حرف العطف، التقدير : وأن الدين. قال ابن عطية : وهذا ضعيف، ولم يبين وجه ضعفه، ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف، فيفصل بين المتعاطفين
٤٠٨
المرفوعين بالمنصوب المفعول، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية، وبجملتي الاعتراض، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل، نحو : أكل زيد خبزاً وعمرو وسمكاً. وأصل التركيب : أكل زيد وعمرو خبراً وسمكاً. فإن فصلنا بين قولك : وعمرو، وبين قولك : وسمكاً، يحصل شنع التركيب. وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح.
وقال الزمخشري : وقرئتا مفتوحتين على أن الثاني بدل من الأول، كأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، والبدل هو المبدل منه في المعنى، فكان بياناً صريحاً، لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل. إنتهى. وهذا نقل كلام أبي علي دون استيفاء.
وأما قراءة ابن عباس فخرج على ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ﴾ هو معمول : شهد، ويكون في الكلام اعتراضان : أحدهما : بين المعطوف عليه والمعطوف وهو ﴿أَنَّه لا إله إِلا هُوَ﴾ والثاني : بين المعطوف والحال وبين المفعول لشهد وهو ﴿لا إله إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ وإذا أعربنا : العزيز، خبر مبتدأ محذوف، كان ذلك ثلاث اعتراضات، فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظير من كلام العرب، وإنما حمل على ذلك العجمة، وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب، وحفظ أشعارها.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٠٧
وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب : أنه لا يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب، بل لا بدّ من الاطلاع على كلام العرب، والتطبع بطباعها، والاستكثار من ذلك، والذي خرجت عليه قراءة : أن الدّين، بالفتح هو أن يكون الكلام في موضع المعمول : للحكيم، على إسقاط حرف الجر، أي : بأن، لأن الحكيم فعيل للمبالغة : كالعليم والسميع والخبير، كما قال تعالى ﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ وقال ﴿مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ والتقدير : لا إله إلا هو العزيز الحاكم أن الدّين عند الله الإسلام. ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية، وشهد له بذلك الملائكة وأولو العلم، حكم أن الدّين المقبول عند الله هو الإسلام، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلَـامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ وعدل من صيغة الحاكم إلى الحكيم لأجل المبالغة، ولمناسبة العزيز، ومعنى المبالغة تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع إن الدين عنده هو الإسلام، إذ حكم في كل شريعة بذلك.
فإن قلت : لم حملت الحكيم على أنه محول من فاعل إلى فعيل للمبالغة، وهلا جعلته فعيلاً بمعنى مفعل، فيكون معناه المحكم، كما قالوا في : أليم، إنه بمعنى مؤلم، وفي سميع من قول الشاعر :
أمن ريحانة الداعي السميع
أي المسمع ؟
فالجواب : إنا لا نسلم أن فعيلاً يأتي بمعنى مفعل، وقد يؤوّل : أليم وسميع، على غير مفعل، ولئن سلمنا ذلك فهو من الندور
٤٠٩
والشذوذ والقلة بحيث لا ينقاس، وأما فعيل المحوّل من فاعل للمبالغة فهو منقاس كثير جداً، خارج عن الحصر : كعليم وسميع قدير وخبير وحفيظ، في ألفاظ لا تحصى، وأيضاً فإن العربي القح الباقي على سليقته لم يفهم من حكيم إلاَّ أنه محوّل للمبالغة من حاكم، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءَا بِمَا كَسَبَا نَكَـالا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أنكد أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق : والله غفور رحيم فقيل له التلاوة :﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فقال : هكذا يكون عز فحكم، ففهم من حكم أنه محول للمبالغة من حالكم، وفهم هذا العربي حجة قاطعة بما قلناه، وهذا تخريج سهل سائغ جداً، يزيل تلك التكلفات والتركيبات المعقدة التي ينزه كتاب الله عنها.