ومن الجهة التي امتنع عطف. ومن، على الضمير إذا حمل الكلام على ظاهره دون تأويل، يمتنع كون : من، منصوباً على أنه مفعول معه، لأنك إذا قلت : أكلت رغيفاً وعمراً، أي : مع عمرو، دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف، وقد أجاز هذا الوجه الزمخشري، وهو لا يجوز لما ذكرنا على كل حال، لأنه لا يمكن تأويل حذف المفعول مع كون الواو واو المعية.
وأثبت ياء : اتبعني، في الوصل أبو عمرو، ونافع، وحذفها الباقون، وحذفها أحسن لموافقة خط المصحف، ولأنها رأس آية كقوله : أكرمن وأهانن، فتشبه قوافي الشعر كقول الشاعر :
وهل يمنعنّي ارتيادُ البلاد من حذر الموت أن يأتيَنْ
٤١٢
﴿وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ﴾ هم : اليهود والنصارى باتفاق ﴿وَالامِّيِّانَ﴾ هم مشركو العرب، ودخل في ذلك كل من لا كتاب له ﴿ءَأَسْلَمْتُمْ﴾ تقدير في ضمنه الأمر. وقال الزجاج : تهدّد. قال ابن عطية : وهذا احسن، لأن المعنى : أأسلمتم له أم لا ؟ وقال الزمخشري : يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى حصوله لا محالة، فهل أسلمتم أم أنتم على كفركم ؟ وهذا كقولكم لمن لخصت له المسألة، ولم تبقِ من طرق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته، هل فهمتها لا أمّ لك ؟ ومنه قوله عز وعلا :﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر، وفي هذا الاستفهام استقصار وتغيير بالمعاندة وقلة الإنصاف، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة ولم يتوقف إذعانه للحق، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسداداً بينه وبين الإذعان، وكذلك في : هل فهمتها ؟ توبيخ بالبلادة وكله القريحة، وفي ﴿فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه. انتهى كلامه. وهو حسن، وأكثره من باب الخطابة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٠٧
﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ﴾ أي إن دخلوا في الإسلام فقد حصلت لهم الهداية، وعبر بصيغة الماضي المصحوب بقد الدالة على التحقيق مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى، ومن الظلمة إلى النور. انتهى.
﴿وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَـاغُ﴾ أي : هم لا يضرونك بتوليهم، وما عليك أنت إلاَّ تنبيههم بما تبلغه إليهم من طلب إسلامهم وانتظامهم في عبادة الله وحده، وقيل : إنها آية مواعدة منسوخة بآية السيف، ولا نحتاج إلى معرفة تاريخ النزول، وإذا نظرت إلى سبب نزول هذه الآيات، وهو وفود وفد نجران، فيكون المعنى : فإنما عليك البلاغ بقتالٍ وغيره.
﴿وَاللَّهُ بَصِيرُا بِالْعِبَادِ﴾. وفيه وعيد وتهديد شديد لمن تولى عن الإسلام، ووعد بالخير لمن أسلم، إذ معناه : إن الله مطلع على أحوال عبيده فيجازيهم بما تقتضي حكمته.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاَايَـاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ﴾ الآية هي في اليهود والنصارى، قاله محمد بن جعفر بن الزبير وغيره، وصف من تولى عن الإسلام وكفر بثلاث صفات :
إحداهما : كفره بآيات الله وهم مقرون بالصانع، جعل كفرهم ببعض مثل كفرهم بالجميع، أو يجعل : بآيات الله، مخصوصاً بما يسبق إليه الفهم من القرآن والرسول صلى الله عليه وسلّم.
الثانية : قتلهم الأنبياء، وقد تقدّمت كيفية قتلهم في البقرة في قوله ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ والألف واللام في : النبيين، للعهد.
والثالثة : قتل من أمر بالعدل.
فهذه ثلاثة أوصاف بدىء فيها بالأعظم فالأعظم، وبما هو سبب للآخر : فأولها : الكفر بآيات الله، وهو أقوى الأسباب في عدم المبالاة بما يقع من الأفعال القبيحة، وثانيها : قتل من أظهر آيات الله واستدل بها. والثالث : قتل أتباعهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وهذه الآية جاءت وعيداً لمن كان في زمانه صلى الله عليه وسلّم، ولذلك جاءت الصلة بالمستقبل، ودخلت الفاء في خبر : أن، لأن الموصول ضمن معنى اسم الشرط، ولما كانوا على طريقة أسلافهم في ذلك، نسب إليهم ذلك، ولأنهم أرادوا قتله صلى الله عليه وسلّم، فقتل أتباعه، فأطلق ذلك عليهم مجازاً أي : من شأنهم وإرادتهم ذلك. ويحتمل أن تكون الفاء زائدة على مذهب من يرى ذلك، وتكون هذه الجملة حكاية عن حال آبائهم وما فعلوه في غابر الدهر من هذه الأوصاف القبيحة، ويكون في ذلك إرذال لمن انتصب لعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، إذ هم سالكون في ذلك طريقة آبائهم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٠٧
والمعنى : إن آباءكم الذين أنتم مستمسكون بدينهم كانوا على الحالة التي أنتم عالمون بها من الاتصاف بهذه الأوصاف، فينبغي لكم أن تسلكوا غير طريقهم، فإنهم لم يكونوا على حق. فذكر تقبيح الأوصاف، والتوعد عليها بالعقاب، مما ينفر عنها، ويحمل على التحلي بنقائضها من الإيمان بآيات الله وإجلال رسله وأتباعهم.
وقرأ الحسن : ويقتلون النبيين، بالتشديد، والتشديد هنا للتكثير بحسب المحل وقرأ حمزة، وجماعة
٤١٣