﴿وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ جملة حالية مؤكدة لأن التولي هو الإعراض، أو مبينة لكون التولي عن الداعي، والإعراض عما دعا إليه، فيكون المتعلق مختلفاً، أو لكون التولي بالبدن والإعراض بالقلب، أو لكون التولي من علمائهم والإعراض من أتباعهم، قاله ابن الأنباري. أو جملة مستأنفة أخبر عنهم قوم لا يزال الإعراض عن الحق وأتباعه من شأنهم وعادتهم، وفي قوله :﴿بَيْنَهُمْ﴾ دليل على أن المتنازع فيه كان بينهم واقعاً لا بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو خلاف ما ذكر في أسباب النزول، فإن صح سبب منها كان المعنى : ليحكم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإن لم يصح حمل على الاختلاف الواقع بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم، فدعوا إلى التوراة التي لا اختلاف في صحتها عندكم، ليحكم بين المحق والمبطل، فتولى من لم يسلم.
قيل وفي هذه الآية دليل على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأنهم ولولا علمهم بما ادّعاه في كتبهم من نعته وصحة نبوته، لما أعرضوا وتسارعوا إلى موافقة ما في كتبهم، حتى ينبئوا عن بطلان دعواه. وفيا دليل على أن من دعاه خصمه إلى الحكم الحق لزمته إجابته لأنه دعاه إلى كتاب الله، ويعضده :﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ﴾.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١٥
قال القرطبي : وإذا دعي إلى كتاب الله وخالف تعين زجره بالأدب على قدر المخالِف، والمخالَف. وهذا الحكم جارٍ عندنا بالأندلس وبلاد المغرب، وليس بالديار المصرية.
قال ابن خويزمنداد المالكي : واجب على من دعي إلى مجلس الحكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾ الإشارة بذلك إلى التولي، أي : ذلك التولي بسبب هذه الأقوال الباطلة، وتسهيلهم على أنفسهم العذاب، وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل.
وقال الزمخشري : كما طمعت الجبرية والحشوية.
﴿وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ من أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، كما غرى أولئك بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في كبائرهم. إنتهى كلامه. وهو على عادته من اللهج بسب أهل السنة والجماعة، ورميهم بالتشبيه، والخروج إلى الطعن عليهم بأي طريق أمكنه.
وتقدّم تفسير هذه : الأيام المعدودات، في سورة البقرة فأغنى عن إعادته هنا، إلاَّ أنه جاء هناك : معدودة، وهنا : معدودات، وهما طريقان فصيحان تقول : جبال شامخة، وجبال شامخات. فتجعل صفة جمع التكسير للمذكر الذي لا يعقل تارة لصفة الواحدة المؤنثة، وتارة لصفة المؤنثات. فكما تقول : نساء قائمات، كذلك تقول : جبال راسيات، وذلك مقيس مطرد فيه.
﴿وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ قال مجاهد : الذي افتروه هو قولهم :﴿لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾ وقال قتادة : بقولم : نحن أبناء الله وأحباؤه. وقيل :﴿لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـارَى ﴾. وقيل : مجموع هذه الأقوال.
وارتفع : ذلك، بالابتداء، و: بأنهم، هو الخبر، أي : ذلك الإعراض والتولي كائن لهم وحاصل بسبب هذا القول، وهو قولهم : إنهم لا تمسهم النار إلاَّ أياماً قلائل، يحصرها العدد. وقيل : خبر مبتدأ محذوف، أي : شأنهم ذلك، أي التولي والإعراض، قاله الزجاج. وعلى هذا يكون : بأنهم، في موضع الحال، أي : مصحوباً بهذا القول، و: ما في : ما كانوا، موصولة، أو مصدرية.
﴿فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَـاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ هذا تعجيب من حالهم، واستعظام لعظم مقالتهم حين اختلفت مطامعهم، وظهر كذب دعواهم، إذ صاروا إلى عذاب ما لهم حيلة في دفعه، كما قال تعالى :﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ هذا الكلام يقال عند التعظيم لحال الشيء، فكيف إذا توفتهم الملائكة ؟ وقال الشاعر :
٤١٧
فكيف بنفس، كلما قلت : أشرفتعلى البرء من دهماء، هيض اندمالها
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١٥
وقال :
فكيف ؟ وكلٌّ ليس يعدو حمامهوما لامرىء عما قضى الله مرحلُ
وانتصاب : فكيف، قيل على الحال، والتقدير : كيف يصنعون ؟ وقدره الحوفي : كيف يكحون حالهم ؟ فإن أراد كان التامة كانت في موضع نصب على الحال، وإن كانت الناقصة كانت في موضع نصب على خبر كان، والأجود أن تكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى : التقدير : كيف حالهم ؟ والعامل في : إذا، ذلك الفعل الذي قدره، والعامل في : كيف، إذا كانت خبراً عن المبتدأ إن قلنا إن انتصابها انتصاب الظروف، وإن قلنا إنها اسم غير ظرف، فيكون العامل في : إذا، المبتدأ الذي قدرناه، أي : فكيف حالهم في ذلك الوقت ؟ وهذا الاستفهام لا يحتاج إلى جواب، وكذا أككثر استفهامات القرآن، لأنها من عالم الشهادة، وإنما استفهامه تعالى تقريع.