وإذا حملناه على الأظهر : وهو السلطنة والغلبة، وكون المؤتَى هو الآمر المتبع، فالذي آتاه الملك هو محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته، والمنزوع منهم فارس والروم. وقيل : المنزوع منه أبو جهل وصناديد قريش. وقيل : العرب وخلفاء الإسلام وملوكه، والمنزوع فارس والروم. وقال السدي : الأنبياء أمر الناس بطاعتهم، والمنزوع منه الجبارون أمر الناس بخلافهم. وقيل : داود عليه السلام، والمنزوع منه طالوت. وقيل : صخر، والمنزوع منه سليما أيام محنته. وقيل : المعنى تؤتي الملك في الجنة من تشاء وتنزع الملك من ملوك الدنيا في الآخرة ممن تشاء. وقيل : الملك العزلة والانقطاع، وسموه الملك المجهول.
وهذه أقوال مضطربة، وتخصيصات ليس في الكلام ما يدل عليها، والأولى أن يحمل على جهة التمثيل لا الحصر في المراد.
﴿وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ﴾ قيل : محمد صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، حين دخلوا مكة في اثني عشر ألفاًك ظاهرين عليها، وأذل أبا جهل وصناديد قريش حتى حزت رؤوسهم وألقوا في القليب. وقيل : بالتوفيق والعرفان، وتذل بالخذلان. وقال عطاء : المهاجرين والأنصار وتذل فارس والروم. وقيل : بالطاعة وتذل بالمعصية. وقيل : بالظفر والغنيمة وتذل بالقتل والجزية. وقيل : بالإخلاص وتذل بالرياء. وقيل بالغنى وتذل بالفقر. وقيل : بالجنة والرؤية وتذل بالحجاب والنار، قاله الحسن بن الفضل. وقيل : بقهر النفس وتذل باتباع الخزي، قاله الوراق. وقيل : بقهر الشيطان وتذل بقهر الشيطان اياه، قاله الكتاني. وقيل : بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع.
ينبغي حمل هذه الأقاويل على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية، بل الذي يقع به العز والذل مسكوت عنه، وللمعتزلة هنا كلام مخالف لكلام أهل السنة، قال الكعبي : تؤتى الملك على سبيل الاستحقاق من يقوم به، ولا تنزعه إلاَّ ممن فسق، يدل عليه ﴿لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَـاهُ عَلَيْكُمْ﴾ جعل الاصطفاء سبباً للملك، فلا يجوز أن يكون ملك الظالمين بإيتائه وقد يكون، وقد ألزمهم
٤١٩
أن لا يتملكوه، فصح أن الملوك العادلين هم المخصوصون بايتاء الله الملك، وأما الظالمون فلا.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١٥
أما النزع فبخلافه، فكما ينزعه من العادل لمصلحة، فقد ينزعه من الظالم.
وقال القاضي عبد الجبار : الإعزاز المضاف إليه تعالى يكون في الدين بالإمداد بالألطاف ومدحهم وتغلبهم على الأعداء، ويكون في الدنيا بالمال وإعطاء الهيبة. وأشرف أنواع العزة في الدين هو الإيمان، وأذل الأشياء الموجبه للذلة هو الكفر، فلو كان حصول الإيمان والكفر من العبد لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله إياه وإذلاله، ولو كان كذلك كان حظه من هذا الوصف أتم من حظه سبحانه، وهو باطل قطعاً.
وقال الجبائي : يذل أعداءه في الدنيا والآخرة، ولا يذل أولياءه وإن أفقرهم وأمرضهم وأخافهم وأحوجهم إلى غير ذلك، لأن ذلك لعزهم في الآخرة بالثواب أو العوض فصار كالفصد يؤلم في الحال ويعقب نفعاً. قال : ووصف الفقر بكونه ذلاً مجازاً، كقوله أذلة على المؤمنين} وإذلال الله المبطل بوجوه بالذم واللعن، وخذلانهم بالحجة والنصرة، وبجعلهم لأهل دينه غنيمة، وبعقوبتهم في الآخرة.
وإذلال الله المبطل بوجوه بالذم واللعن، وخذلانهم بالحجة والنصرة، وبجعلهم لأهل دينه غنيمة، وبعقوبتهم في الآخرة.
﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ أي : بقدرتك وتصديقك وقع الخير، ويستحيل وجود اليد بمعنى الجارحه لله تعالى.
قيل : المعنى والشر، نحو : تقيكم الحرّ، أي والبرد. وحذف المعطوف جائز لفهم المعنى، إذ أحد الضدين يفهم منه الآخر، وهو تعالى قد ذكر إيتاء الملك ونزعه، والإعزاز والإذلال، وذلك خير لناس وشر لآخرين، فلذلك كان التقدير : بيدك الخير والشر، ثم ختمها بقوله ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ فجاء بهذا العام المندرج تحته الأوصاف السابقة، وجمع الخيور والشرور، وفي الاقتصار على ذكر الخير تعليم لنا كيف نمدح بأن نذكر أفضل الخصال.
وقال الزمخشري. فإن قلت : كيف قال ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ فذكر الخير دون الشر ؟
قلت لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين، وهو الذي أنكرته الكفرة، فقال :﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك، ولأن كل أفعال الله من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله. انتهى كلامه، وهو يدافع آخرهُ أولَه، لأنه ذكر في السؤال ؛ لَم اقتصر على ذكر الخير دون الشر ؟
وأجاب بالجواب الأول، وذلك يدل على أن بيده تعالى الخير والشر، وإنما كان اقتصاره على الخير لأن الكلام إنما وقع فيما يسوقه تعالى من الخير للمؤمنين، فناسب الاقتصار على ذكر الخير فقط.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١٥
وأجاب بالجواب الثاني : وذلك يدل على أنه تعالى جميع أفعاله خير ليس فيها شر، وهذا الجواب يناقض الأول.