الاستفهام الذي معناه التعجب في ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ﴾. والإشارة في ﴿نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ﴾ فإدخال : من، يدل على أنهم لم يحيطوا بالتوراة علماً ولا حفظاً، وذلك إشارة إلى الإزراء بهم، وتنقيص قدرهم وذمهم، اذ يزعمون أنهم أخياروهم بخلاف ذلك، وفي قوله ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾ إشارة إلى توليهم وإعراضهم اللذين سببهما افتراؤهم، وفي ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ إشارة إلى أن جزاء أعمالهم لا ينقص منه شيء.
والتكرار في ﴿عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَـابِ﴾ ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَـابِ اللَّهِ﴾ إما في اللفظ والمعنى إن كان المدلول واحداً، وإما في اللفظ إن كان مختلفاً. وفي التولي والإعراض إن كانا بمعنى واحد. وفي :﴿مَـالِكَ الْمُلْكِ﴾ ﴿تُؤْتِى الْمُلْكَ﴾ ﴿وَتَنزِعُ الْمُلْكَ﴾ وتكراره في جمل للتفخيم والتعظيم إن كان المراد واحداً، وإن اختلف كان من تكرار اللفظ فقط، وتكرار ﴿مَن تَشَآءُ﴾ وفي ﴿تُولِجُ﴾ وفي ﴿تُخْرِجُ﴾ وفي متعلقيهما. والاتساع في جعل : في، بمعنى : على، على قول من زعم ذلك في قوله ﴿تُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ﴾ أي على النهار، ﴿وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ﴾ أي على الليل. وعبر بالإيلاج عن العلو والتغشية.
والنفي المتضمن الأمر في ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ على قول الزجاج، أي لا ترتابوا فيه، والتجنيس المماثل في ﴿مَـالِكَ الْمُلْكِ﴾ والطباق : في : تؤتي وتنزع، وتعز وتذل، وفي الليل والنهار، وفي الحي والميت. ورد العجز على الصدر في : تولج، وما بعده، والحذف وهو في مواضع مما يتوقف فهم الكلام على تقديرها. كقوله ﴿تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ﴾ أي من تشاء أن تؤتيه. والإسناد المجازي في ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ أسند الحكم إلى الكتاب لأنه يبين الأحكام فهو سبب الحكم وروي في الحديث :"إن من أراد قضاء دينه قرأ كل يوم : قل اللهم مالك الملك إلى بغير حساب. ويقول رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي منهما من تشاء إقض عني ديني. فلو كان ملء الأرض ذهباً لأداه الله".
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١٥
﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قيل : نزلت في عبادة بن الصامت، كان له حلفاء من اليهود فأراد أن يستظهر بهم على العدو وقيل : في عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتوالون اليهود وقيل : في قوم من اليهود، وهم : الحجاح بن عمر، وكهمس بن أبي الحقيق، وقيس بن يزيد، كانوا يباطنون نفراً من الأنصار يفتنونهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين وقالوا : اجتنبوا هؤلاء اليهود، فأبوا، فنزلت هذه الأقوال مروية عن ابن عباس. وقيل : في حاطب بن بلتعة، وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار قريش، فنزلت.
ومعنى : اتخاذهم أولياء : اللطف بهم في المعاشرة، وذلك لقرابة أو صداقة. قبل الإسلام، أو يد سابقة أو غير ذلك، وهذا فيما يظهر نهوا عن ذلك، وأما أن يتخذ ذلك بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان، فالنهي هنا إنما معناه النهي عن اللطف بهم والميل إليهم، واللطف عام في جميع الأعصار، وقد تكرر هذا في القرآن. ويكفيك من ذلك قوله تعالى :﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الآية، والمحبة في الله والبغض في الله أصل عظيم من أصول الدين.
وقرأ الجمهور : لا يتخذ، على النهي وقرأ الضبي برفع الذال على النفي، والمراد به النهي، وقد أجاز الكسائي فيه الرفع كقراءة الضبي.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه من تعظيم الله تعالى والثناء عليه بالأفعال التي يختص بها، ذكر ما يجب على المؤمن من معاملة الخلق، وكان الآيات السابقة في الكفار فنهوا عن موالاتهم وأمروا بالرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه إذ هو تعالى مالك الملك.
وظاهر الآية تقتضي النهي عن موالاتهم إلاَّ ما فسح لنا فيه من اتخاذهم عبيداً، والاستعانة بهم استعانه العزيز بالذليل، والأرفع بالأوضع، والنكاح فيهم. فهذا كله ضرب من
٤٢٢
الموالاة أذن لنا فيه، ولسنا ممنوعين منه، فالنهي ليس على عمومه.
﴿مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ تقدم تفسير : من دون، في قوله ﴿وَادْعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ فأغنى عن إعادته.
و : يتخذ، هنا متعدية إلى اثنين، و: من دون، متعلقة بقوله : لا يتخذ، و: من، لابتداء الغاية قال علي بن عيسى : أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١٥


الصفحة التالية
Icon