﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ﴾ ذلك إشارة إلى اتخاذهم أولياء، وهذا يدل على المبالغة في ترك الموالاة، إذ نفي عن متوليهم أن يكون في شيء من الله، وفي الكلام مضاف محذوف أي : فليس من ولاية الله في شيء وقيل : من دينه وقيل : من عبادته وقيل : من حزبه. وخبر : ليس، هو ما استقلت به الفائدة، وهي : في شيء، و: من الله، في موضع نصب على الحال، لأنه لو تأخر لكان صفة لشيء، والتقدير : فليس في شيء من ولاية الله. و: من، تبعيضية نفي ولاية الله عن من اتخذ عدوه ولياً، لأن الولايتين متنافيتان، قال :
تود عدوي ثم تزعم أننيصديقك، ليس النَّوْكُ عنك بعازب
وتشبيه من شبه الآية ببيت النابغة :
إذا حاولت في أسد فجورافإني لست منك ولست مني
ليس بجيد، لأن : منك ومني، خبر ليس، وتستقل به الفائدة. وفي الآية الخبر قوله : في شيء، فليس البيت كالآية.
قال ابن عطية ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ﴾ معناه في شيء مرضي على الكمال والصواب، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم :"من غشنا فليس منا". وفي الكلام حذف مضاف تقديره : فليس من التقرب إلى الله والتزلف. ونحو هذا مقوله : في شيء، هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله :﴿فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ﴾. انتهى كلامه. وهو كلام مضطرب، لأن تقديره : فليس من التقرب إلى الله، يقتضي أن لا يكون من الله خبراً لليس، إذ لا يستقل. فقوله : في شيء، هو في موضع نصب على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً، فيبقى : ليس، على قوله لا يكون لها خبر، وذلك لا يجوز. وتشبيهه بقوله عليه السلام :"من غشنا فليس منا" ليس بجيد لما بيناه من الفرق في بيت النابغة بينه وبين الآية.
﴿إِلا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَـاةً﴾ هذا استثناء مفرع من المفعول له، والمعنى لا يتخذوا كافراً ولياً لشيء من الأشياء إلاَّ لسبب التقية، فيجوز إظهار الموالاة باللفظ والفعل دون ما ينعقد عليه القلب والضمير، ولذلك قال ابن عباس : التقية المشار إليها مداراة ظاهرة وقال : يكون مع الكفار أو بين أظهرهم، فيتقيهم بلسانه، ولا مودة لهم في قلبه.
وقال قتادة : إذا كان الكفار غالبين، أو يكون المؤمنون في قوم كفار فيخافونهم، فلهم أن يحالفوهم ويداروهم دفعاً للشر وقلبهم مطمئن بالإيمان.
وقال ابن مسعود : خالطوا الناس وزايلوهم وعاملوهم بما يشتهون، ودينكم فلا تثلموه وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد : خالص المؤمن وخالق الكافر، إن الكافر يرضى منك بالخلق الحسن.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١٥
وقال الصادق : التقية واجبة، إني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فاستتر منه بالسارية لئلا يراني وقال : الرياء مع المؤمن شرك، ومع المنافق عبادة.
وقال معاذ بن جبل، ومجاهد : كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، فأما اليوم فقد أعز الله المسلمين أن يتقوهم بأن يتقوا من عدوهم.
وقال الحسن : التقية جائزة إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل وقال مجاهد : إلا أن تتقوا قطيعة الرحم فخالطوهم في الدنيا.
وفي قوله ﴿إِلا أَن تَتَّقُوا ﴾ التفات، لأنه خرج من الغيبة إلى الخطاب، ولو جاء على نظم الأول لكان : إلا أن يتقوا، بالياء المعجمة من أسفل، وهذا النوع في غاية الفصاحة، لأنه لما كان المؤمنون نهوا عن فعل ما لا يجوز، جعل ذلك في اسم غائب، فلم يواجهوا بالنهي، ولما وقعت المسامحة والإذن في بعض ذلك ووجهوا
٤٢٣
بذلك إيذاناً بلطف الله بهم، وتشريفاً بخطابه إياهم.
وقرأ الجمهور : تقاة، وأصله : وقية، فأبدلت الواو تاء، كما أبدلوها في : تجاه وتكاه، وانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وهو مصدر على فعلة : كالتؤدة والتخمة، والمصدر على فعل أو فعلة جاء قليلاً. وجاء مصدراً على غير الصدر، إذ لو جاء على المقيس لكان : اتقاء ونظير وقوله تعالى :﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا﴾ وقول الشاعر :
ولاح بجانب الجبلين منهركام يحفر الأرض احتفاراً
والمعنى : إلاَّ أن تخافوا منهم خوفاً. وأمال الكسائي : تقاة، وحق تقاته، ووافقه حمزة هنا وقرأ ورش بين اللفظين، وفتح الباقون.
وقال الزمخشري : إلاَّ أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه وقرىء : تقية. وقيل : للمتقي تقاة وتقية، كقولهم : ضرب الأمير لمضروبه. انتهى فجعل : تقاة، مصدراً في موضع اسم المفعول، فانتصابه على أنه مفعول به لا على أنه مصدر، ولذلك قدره إلاَّ أن تخافوا أمراً.
وقال أبو عليّ : يجوز أن يكون : تقاة، مثل : رماة، حالاً من : تتقوا، وهو جمع فاعل، وإن كان لم يستعمل منه فاعل، ويجوز أن يكون جمع تقي. انتهى كلامه.


الصفحة التالية
Icon