وتكون الحال مؤكدة لأنه قد فهم معناها من قوله ﴿إِلا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ﴾ وتجويز كونه جمعاً ضعيف جدّاً، ولو كان جمع : تقي، لكان أتقياء، كغني وأغنياء، وقولهم : كمي وكماة، شاذ فلا يخرجّ عليه، والذي يدل على تحقيق المصدرية فيه قوله تعالى :﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ المعنى حق اتقائه، وحسن مجيء المصدر هكذا ثلاثياً أنهم قد حذفوا : اتقى، حتى صار : تقي يتقي، تق الله فصار كأنه مصدر لثلاثي.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١٥
وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة، والضحاك، وأبو حيوة، ويعقوب، وسهل، وحميد ابن قيس، والمفضل عن عاصم : تقية على وزن مطية وجنية، وهو مصدر على وزن : فعيلة، وهو قليل نحو : النميمة. وكونه من افتعل نادر.
وظاهر الآية يقتضى جواز موالاتهم عند الخوف منهم، وقد تكلم المفسرون هنا في التقية، إذ لها تعلق بالآية، فقالو : أما الموالاة بالقلب فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها، وكذلك الموالاة بالقول والفعل من غير تقية، ونصوص القرآن والسنة تدل على ذلك، والنظر في التقية يكون فيمن يتقى منه ؟ وفيما يبيحها ؟ وبأي شيء تكون من الأقوال والأفعال ؟ فأما من يتقى منه فكل قادر غالب يكره بجور منه، فيدخل في ذلك : الكفار، وجورة الرؤساء، والسلابة، وأهل الجاه في الحواضر. قال مالك : وزوج المرأة قد يكره ؛ وأما ما يببحها : فالقتل، والخوف على الجوارح، والضرب بالسوط، والوعيد، وعداوة أهل الجاه الجورة. وأما بأي شيء تكون من الأقوال ؟ فبالكفر فما دونه من : بيع، وهبة، وغير ذلك. وأما من الأفعال : فكل محرم.
وقال مسروق : إن لم يفعل حتى مات دخل النار، وهذا شاذ.
وقال جماعة من أهل العلم : التقية تكون في الأقوال دون الأفعال، روي ذلك عن ابن عباس، والربيع، والضحاك.
وقال أصحاب أبي حنيفة : التقية رخصة من الله تعالى، وتركها أفضل، فلو أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل فهو أفضل ممن أظهر، وكذلك كل أمر فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة. قال أحمد بن حنبل، وقد قيل له : إن عرضت على السيف تجيب ؟ قال : لا. وقال : إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل، فمتى يتبين الحق ؟ والذي نقل إلينا خلفاً عن سلف أن الصحابة، وتابعيهم، بذلوا أنفسهم في ذات الله. وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا سطوة جبار ظالم.
وقال الرازي : إنما تجوز التقية فيما يتعلق بإظهار الحق والدين، وأما ما يرجع ضرورة إلى الغير : كالقتل، والزنا، وغصب الأموال، والشهادة بالزور، وقذف المحصنات، وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فغير جائز البتة.
وظاهر الآية يدل على أنها مع الكفار الغالبين، إلاَّ أن مذهب الشافعي : أن الحالة بين المسلمين إذا شاكت الحال بين المشركين
٤٢٤
جازت التقية محاماة عن النفس، وهي جائزة لصون النفس والمال. إنتهى.
قيل : وفي الآية دلالة على أنه لادلالة لكافر على مسلم في شيء، ماذا كان له ابن صغير مسلم باسلام أمة فلا ولا به له عليه في تصرف ولا تزوّج ولا غيره.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١٥
قيل : وفيها دلالة على أن الذمي لا يعقل جناية المسلم، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته، لأن ذلك من الموالاة والنصرة والمعونة.
﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُا﴾ قال ابن عباس : بطشه، وقال الزجاج : نفسه أي : إياه تعالى، كما قال الأعشى :
يوماً بأجود نائلاً منه إذانفس الجبان تجهمت سؤَّالها
أراد إذا البخيل تجهم سؤاله. قال ابن عغطية : وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات. وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه. فقال ابن عباس، والحسن : ويحذركم الله عقابه. إنتهى كلامه.
ولما نهاهم تعالى عن اتخاذ الكافرين أولياء، حذرهم من مخالفته بموالاة أعداه قال :﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ أي : صيرورتكم ورجوعكم، فيجازيكم إن ارتكبتم موالاتهم بعد النهي. وفي ذلك تهديد وعيد شديد.
﴿قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ تقدّم تفسير نظير هذه الآية في أواخر آي البقرة، وهناك قدّم الإبداء على الإخفاء، وهنا قدم الإخفاء على الإبداء، وجعل محلهما ما في الصدور، وأتى جواب الشرط قوله :﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ وذلك من التفنن في الفصاحة. والمفهوم أن الباري تعالى مطلع على ما في الضمائر، لا يتفاوت علمه تعالى بخفاياها، وهو مرتب على ما فيها الثواب والعقاب إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وفي ذلك تأكيد لعدم الموالاة، وتحذير من ذلك.
﴿وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى﴾ هذا دليل على سعة علمه، وذكر عموم بعد خصوص، فصار علمه بما في صدورهم مذكوراً مرتين على سبيل التوكيد، أحدهما : بالخصوص، والآخر : بالعموم، إذ هم ممن في الأرض.
﴿يَشَآءُا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فيه تحذير مما يترتب على علمه تعالى بأحوالهم من المجازاة على ما أكنته صدروهم.