قالوا : ويحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير، أي : إن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروا دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه. وعن الحسن : من رأفته بهم أن حذرهم نفسه، وقال الحوفي : جعل تحذيرهم نفسه إياه، وتخويفهم عقابه رأفة بهم، ولم يجعلهم في عمىً من أمرهم. وروي عن ابن عباس هذا المعنى أيضاً، والكلام محتمل لذلك، لكن الأظهر الأول، وهو أن يكون ابتداء إعلامه بهذه الصفة على سبيل التأنيس والإطماع لئلا يفرط الوعيد على قلب المؤمن.
﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. نزلت في اليهود، قالوا :﴿نَحْنُ أَبْنَـا ؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـا ؤُهُا﴾ أو : في قول المشركين ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ قالوا ذلك، وقد نصبت قريش أصنامها يسجدون لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم" وكلا هذين القولين عن ابن عباس.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١٥
وقال الحسن، وابن جريج : في قوم قالوا : إنا لنحب ربنا حباً شديداً. وقال محمد بن جعفر بن الزبير : في وفد نجران حيث قالوا : إنا نعظم المسيح حباً لله. انتهى.
ولفظ الآية يعم كل من ادعى محبة الله، فمحبة العبد لله عبارة عن عن ميل قلبه إلى ما حدّه له تعالى وأمره به، والعمل به واختصاصه إياه بالعبادة، ومحبته تعالى للعبد تقدّم الكلام عليها، وهل هي من صفات الذات أم من صفات الفعل، فأغنى عن إعادته. رتب تعالى على محتبهم له واتباع رسوله محبته لهم، وذلك أن الطريق الموصل إلى رضاه تعالى إنما هو مستفاد من نبيه، فإنه هو المبين عن الله، إذ لا يهتدي العقل إلى معرفة أحكام ا في العبادات ولا في غيرها، بل رسوله صلى الله عليه وسلّم هو الموضح لذلك، فكان اتباعه فيما أتى به احتماء لمن يحب أن يعمل بطاعة الله تعالى.
وقرأ الجمهور : تحبون، ويحببكم، من أحب. وقرأ أبو رجاء العطاردي : تحبون ويحببكم، بفتح التاء والياء من حب، وهما لغتان وقد تقدّم ذكرهما. وذكر الزمخشري أنه قرىء : يحبكم، بفتح الياء والإدغام.
وقرأ الزهري : فاتبعوني، بتشديد النون، ألحق فعل الأمر نون التوكيد وأدغمها في نون الوقاية، ولم يحذف الواو شبهاً : بأتحاجوني، وهذا توجيه شذوذ. قال الزمخشري : أراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل، فمن أدّعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب، وكتاب الله يكذبه.
ثم ذكر من يذكر محبة الله، ويصفق بيديه مع ذكرها، ويطرب وينعر ويصفق، وقبح من فعله هذا، وزرى على فاعل ذلك بما يوقف عليه في كتابه.
وروي عن أبي عمر إدغم : راء، و: يغفر لكم، في لام : لكم، وذكر ابن عطية عن الزجاج أن ذلك خطأ وغلط ممن رواها عن أبي عمرو، وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك، وذكرنا أن رؤساء الكوفة : أبا جعفر الرواسي، والكسائي، والفراء رووا ذلك عن العرب، ورأسان من البصريين وهما : أبو عمرو، ويعقوب قرآ بذلك وروياه، فلا التفات لمن خالف في ذلك.
﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ هذا توكيد لقوله : فاتبعوني، وروي عن ابن عباس أنه لما نزل ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ قال عبد الله بن أبي لاصحابه : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمر بأن نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم، فنزل ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ﴾.
﴿فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَـافِرِينَ﴾ يحتمل أن يكون : تولوا، ماضياً. ويحتمل أن يكون
٤٣١
مضارعاً حذفت منه التاء، أي : فإن تتولوا، والمعنى : فإن تولوا عما أمروا به من اتباعه وطاعته فإن الله لا يحب من كان كافراً. وجعل من لم يتبعه ولم يطعه كافراً، وتقييد انتفاء محبة الله بهذا الوصف الذي هو الكفر مشعر بالعلية، فالمؤمن من العاصي لا يندرج في ذلك.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤١٥
قيل : وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة وفنون البلاغة الخطاب العام الذي سببه خاص. وفي قوله ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـافِرِينَ﴾ والتكرار، في قوله : المؤمنون من دون المؤمنين، وفي قوله : من الله، ويحذركم الله نفسه، وإلى الله، وفي : يعلمه الله، ويعلم، وفي قوله : يعلمه الله، والله علي، وفي قوله : ما عملت، وما عملت، وفي قوله : الله نفسه، والله، وفي قوله : ويحذركم الله، والله روؤف، وفي قوله : تحبون الله، يحببكم الله، والله غفور، قل أطيعوا الله، فإن الله.
والتجنيس المماثل في : تحبون ويحببكم، والتجنيس المغاير، في : تتقوا منهم تقاه، وفي يغفر لكم وغفور.
والطباق في : تخفوا وتبدوه، وفي : من خير ومن سوء، وفي : محضراً وبعيداً.
والتعبير بالمحل عن الشيء في قوله : ما في صدوركم، عبر بها عن القلوب، قال تعالى :﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الابْصَـارُ﴾ الآية.