جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢
وأما تنظيره بقوله :﴿فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ﴾ فيعنى أنه ثنى بالأسم لتثنية الخبر، والكلام عليه يأتي في مكانه، فإنه من المشكلات، فالأحسن أن يجعل الضمير في : وضعتها أنثى، عائداً على النسمة، أو النفس، فتكون الحال مبنية لا مؤكدة.
وقيل : خاطبت الله تعالى بذلك على سبيل الاعتذار، والتنصل من نذر ما لا يصلح لسدانة البيت، إذ كانت الأنثى لا تصلح لذلك في شريعتهم.
وقيل : كانت مريم أجمل نساء زمانها وأكملهنّ.
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ قرأ ابن عامر، وأبو بكر، ويعقوب : بضم التاء، ويكون ذلك وما بعده من كلام أمّ مريم، وكأنها خاطبت نفسها بقولها : والله أعلم. ولم تأت على لفظ : رب، إذ لو أتت على لفظه لقالت : وأنت أعلم بما وضعت. ولكن خاطبت نفسها على سبيل التسلية عن الذكر، وأن علم الله وسابق قدرته وحكمته يحمل ذلك على عدم التحسر والتحذر على ما فاتنى من المقصد، إذ مراده ينبغي أن يكون المراد، وليس الذكر الذي طلبته ورجوته مثل الأنثى التي علمها وأرادها وقضى بها. ولعل هذه الأنثى تكون خيراً من الذكر، إذ أرادهنا الله، سلت بذلك نفسها.
وتكون : الألف واللام في : الذكر، للعهد فيكون مقصودها ترجيح هذه الأنثى التي هي موهوبة الله على ما كان قد رجت من أنه يكون ذكراً، ويحتمل أن يكون مقصودها أنه ليس كالأنثى في الفضل والدرجة والمزية، لأن الذكر يصلح للتحرير، والاستمرار على خدمة موضع العبادة، ولأنه أقوى على الخدمة، ولا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس ولا تهمة.
قال ابن عطية : كالانثى، في امتناع نذره إذا الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان ؟ قاله قتادة، والربيع، والسدّي، وعكرمة، وغيرهم. وبدأت بذكر الأهمّ في نفسها، وإلاَّ فسياق الكلام أن تقول : وليست الانثى كالذكر، فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها، وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد. إنتهى. وعلى هذا الاحتمال تكون الألف واللام في : الذكر، للجنس.
وقرأ باقي السبعة : بما وضعت، بتاء التأنيث الساكنة على أنه إخبار من الله بأنه أعلم بالذي وضعته. أي : بحاله، وما يؤول إليه أمر هذه الأنثى، فإن قولها : وضعتها أنثى، يدل على أنها لم تعلم من حالها إلاَّ على هذا القدر من كون هذه النسمة جاءت أنثى لا تصلح للتحرير، فأخبر تعالى أنه أعلم بهذه الموضوعة، فأتى بصيغة التفضيل المقتضية للعلم بتفاصيل الأحوال، وذلك على سبيل التعظيم لهذه الموضوعة، والإعلام بما علق بها وبابنها من عظيم الأمور، إذ جعلها وابنها آية للعالمين. ووالدتها جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً. وقرأ ابن عباس : بما وضعت، بكسر تاء الخطاب، خاطبها الله بذلك أي : إنك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة، وما علمه الله تعالى من عظم شأنها وعلوّ قدرها.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢
و : ما، موصولة بمعنى : الذي، أو : التي، وأتى بلفظ : ما، كما في قوله :﴿نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي﴾ والعائد عليها محذوف على كل قراءة.
﴿وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ مريم في لغتهم معناه : العابدة، أرادت بهذه التسمية التفاؤل لها بالخير، والتقرب إلى الله تعالى، والتضرّع إليه بأن يكون فعلها مطابقاً لاسمها، وأن تصدّق فيها ظنها بها. ألا ترى إلى إعاذتها بالله وإعاذة ذريتها من الشيطان ؟ وخاطبت الله بهذا الكلام لترتب لاستعاذة عليه، واستبدادها بالتسمية يدل على أن أباها عمران كان قد مات، كما نقل أنه مات وهي حامل، على أنه يحتمل من حيث هي أنثى أن تستبدّ الأمّ
٤٣٩
بالتسمية لكراهة الرجال البنات، وفي الآية تسمية الطفل قرب الولادة، وفي الحديث :"ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم". وفي الحديث أنه :"يعق عن المولود في السابع ويسمى".
وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها من كلامها، وهي كلها داخله تحت القول على قراءة من قرأ : بما وضعت، بضم التاء. وأما من قرأ : بما وضعت، بسكون التاء أو بالكسر. فقال الزمخشري : هي معطوفة على : إني وضعتها أنثى، وما بينهما جملتان معترضان، كقوله :﴿وَإِنَّه لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾. إنتهى كلامه. ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتا معترضتان، لأنه يحتمل أن يكونه ﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالانثَى ﴾ في هذه القراءة من كلامها، ويكون المعترض جملة واحدة، كما كان من كلامها في قراءة من قرأ : وضعت، بضم التاء، بل ينبغي أن يكون هذا المتعين لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة، لأن في اعتراض جملتين خلافاً مذهب أبي علي : أنه لا يعترض جملتان وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك.