وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما بين المعطوف والمعطوف عليه على زعمه بقوله :﴿وَإِنَّه لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ ليس تشبيهاً مطابقاً للآية، لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب، بل اعترض بين القسم الذي هو :﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ وجوابه الذي هو :﴿إِنَّه لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ﴾ بجملة واحدة وهي قوله :﴿وَإِنَّه لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ لكنه جاء في جملة الأعتراض بين بعض أجزائه وبعض، اعتراض بجملة وهي قوله :﴿لَّوْ تَعْلَمُونَ﴾ اعترض به بين المنعوت الذي هو : لقسم، وبين نعته الذي هو : عظيم، فهذا اعتراض في اعتراض، فليس فصلاً بجملتي اعتراض لقوله :﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالانثَى ﴾ وسمي من الأفعال التي تتعدى إلى واحد بنفسها، وإلى آخر بحرف الجر، ويجوز حذفه واثباته هو الأصل، يقول سميت ابني بزيد، وسميته زيداً. قال :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢
وسميت كعباً بشر العظاموكان أبوك يسمى الجعل
أي : وسميت بكعب، ويسمى : بالجعل، وهو باب مقصور على السماع، وفيه خلاف عن الأخفش الصغير، وتحرير ذلك في علم النحو.
﴿وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ﴾ أتى خبر : إن، مضارعاً وهو : أعيذها، لأن مقصودها ديمومة الإستعاذة، والتكرار بخلاف : وضعتها، وسميتها، فإنهما ماضيان قد انقطعا، وقدّمت ذكر المعاذ به على المعطوف على الضمير للأهتمام به، ثم استدركت بعد ذلك الذكر ذريتها، ومناجاتها الله بالخطاب السابق إنما هو وسيلة إلى هذة الاستعاذة، كما يقدّم الانسان بين يدى مقصوده ما يستنزل به إحسان من يقصده، ثم يأتي بعد ذلك بالمقصود، وورد في الحديث، من رواية أبي هريرة :"كل مولولد من بني آدم له طعنة من الشيطان، وبها يستهل الصبي، إلاَّ ما كان من مريم ابنة عمران وابنها، فإن أمّها قالت حين وضعتها : واني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب".
وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث من طرق، والمعنى واحد. وطعن القاضي عبد الجبار في هذا الحديث، قال : لأنه خبر واحد على خلاف الدليل، فوجب رده، وإنما
٤٤٠
كان على خلاف الدليل لأن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الشر والخير، والصبي ليس كذلك، ولأنه لو تمكن من هذا المس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وغير ذكل، لأنه خص فيه مريم وابنها عيسى دون سائر الأنبياء، ولأنه لو وجد المس لنفي أثره، ولو نفي لدام الصراخ والبكاء، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلان هذا الحديث.
وقال الزمخشري : وما يروي في الحديث :"ما من مولولد يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلاَّ مريم وابنها". فالله أعلم بصحته، فإن صح فمعناه : أن كل مولود يطمع الشيطان في اغوائه إلاَّ مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين. وكذلك كل من كان صفتهما لقوله :﴿وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ واستهلاله صارخاً من مسه، تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول : هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي :
لما تؤذن الدنيا به من صروفهايكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سلط إبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونا به من نخسه. إنتهى كلامه. وهو جار على طريقة أهل الاعتزال، وقد مرلنا شيء من الكلام على هذا في قوله :﴿إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ مِنَ الْمَسِّ﴾.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ قال الزجاج : الأصل فتقبلها بتقبل حسن، ولكن قبول محمول على : قبلها قبولاً، يقال : قبل الشيء قبولاً والقياس فيه الضم : كالدخول والخروج، ولكنه جاء بالفتح، وأجاز الفراء والزجاج ضم القاف، ونقلها ابن الأعرابي فقال : قبلته قَبولاً وقُبولاً. وقال ابن عباس : معناه سلك بها طريق السعداء وقال قوم : تكفل بتربيتها والقيام بشأنها. وقال الحسن : معناه لم يعذيها ساعة قط من ليل ولا نهار وعلى هذه الأقوال يكون تقبل بمعنى استقبل، فيكون تفعل بمعنى استفعل، أي : استقبلها ربها، نحو : تعجلت الشيء فاستعجلته، وتقصيت الشيء واستقصيته، من قولهم : استقبل الأمر أي أخذه بأوله. قال :
وخير الأمر ما استقبلت منهوليس ببأن تتبعه اتباعاً
أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت. وقيل : المعنى فقبلها أي : رضى بها في النذر مكان الذكر في النذر كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك، وقبل دعاءها في قولها : فتقبل مني إنك أنت السميع العليم، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك، ويكون : تفعل، بمعنى الفعل المجرد نحو : تعجب وعجب، وتبرأ وبريء.