﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ﴾. قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي : وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء وقال الحسن : تكلمت في المهد ولم تلقم ثدياً قط، وإنما كانت يأتيها
٤٤٢
رزقها من الجنة.
والذي ورد في الصحيح أن الذي تكلم في المهد ثلاثة : عيسى، وصاحب جريج، وابن المرأة وورد من طريق شاذ : صاحب الأخدود. والأغرب أن مريم منهم.
وقيل : كان جريج النجار، واسمه يوسف بن يعقوب، وكان ابن مريم حين كفلها بالقرعة وقد ضعف زكريا عن القيام بها، يأتيها من كسبه بشيء لطيف على قدر وسعه، فيزكو ذلك الطعام ويكثر، فيدخل زكريا عليها فيتحقق أنه ليس من وسع جريج، فيسألها. وههذا يدل على أن ذلك كان بعد أن كبرت وهو الأقرب للصواب.
وقيل : كانت ترزق من غير رزق بلادهم قال ابن عباس : كان عنباً في مكتل ولم يكن في تلك البلاد عنب، وقاله ابن جبير، ومجاهد وقيل : كان بعض الصالحين يأتيها بالرزق.
والذي يدل عليه ظاهر الآية أن الذي كفلها بالتربية هو زكريا لا غيره، فإن الله تعالى كفاه لما كفلها مؤونة رزقها، ووضع عنه بحسن التكفل مشقة التكلف.
و : كلما، تقتضي التكرار، فيدل على كثرة تعهده وتفقده لأحوالها. ودلت الآية على وجود الرزق عندها كل وقت يدخل عليها، والمعنى : أنه غذاء يتغذى به لم يعهده عندها، ولم يوجهه هو. وأَبْعَدَ من فسر الرزق هنا بأنه فيض كان يأتيها من الله من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي، فسماه رزقاً قال الراغب : واللفظ محتمل، انتهى، وهذا شبيه بتفسير الباطنية.
﴿قَالَ يَـامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ استغرب زكريا وجود الرزق عندها وهو لم يكن أتى به، وتكرر وجوده عندها كلما دخل عليها، فسأل على سبيل التعجب من وصول الرزق إليها، وكيف أتى هذا الرزق ؟ و: أنَّى، سؤال عن الكيفية وعن المكان وعن الزمان، والأظهر أنه سؤال عن الجهة، فكأنه قال : من أي جهة لك هذا الرزق ؟ ولذلك قال أبو عبيدة : معناه من أين ؟ ولا يبعد أن يكون سؤالاً عن الكيفية، أي كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك ؟ وقال الكميت :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢
أنَّى ومن أين أتاك الطربمن حيث لا صبوة ولا طرب
وجوابها سؤاله بأنه ﴿مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ ظاهره أنه لم : يأت به آدمي ألبتة، بل هو رزق يتعهدني به الله تعالى. وظاهره أنه كان يسأل كلما وجد عندها رزقاً، لأن من الجائز في الفعل أن يكون هذا الثاني من جهة غير الجهة التي تقدّمت، فتجيبه بأنه من عند الله، وتحيله على مسبب الأسباب، ومبرز الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود المحض، فعند ذلك يستريح قلب زكريا بكونه لم يسبقه أحد إلى تعهد مريم، وبكونه يشهد مقاماً شريفاً، واعتناءً لطيفاً بمن اختارها الله تعالى بأن جعلها في كفالته.
وهذا الخارق العظيم قيل : هو بدعوة زكريا لها بالرزق، فيكون من خصائص زكريا وقيل : كان تأسيساً لنبوّة ولدها عيسى. وهذان القولان شبيهان بأقوال المعتزلة حيث ينفون وجود الخارق على غير النبي، إلا إن كان ذلك في زمان نبي، فيكون ذلك معجزة لذلك النبي.
والظاهر أنها كرامة خص الله بها مريم، ولو كان خارقاً لأجل زكريا لم يسأل عنه زكريا، وأما كون ذلك لأجل نبوة عيسى، فهو كان لم يخلق بعد.
قال الزجاج : وهذا الخارق من الآية التي قال تعالى :﴿وَجَعَلْنَـاهَا وَابْنَهَآ ءَايَةً لِّلْعَـالَمِينَ﴾ وقال الجبائي : يجوز أن يكون من معجزات زكريا، دعا لها على الإجمال. لأن يوصل لها رزقها، وربما غفل عن تفاصيل ذلك، فلما رأى شيئاً معيناً في وقت معين، سأل عنه، فعلم أنه معجزة، فدعا به أو سأل عن ذلك خشية أن يكون الآتي به إنساناً، فأخبرته أنه ﴿مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ ويحتمل أن يكون على أيدي المؤمنين، وسأل لئلا يكون على وجه لا ينبغي.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ تقدّم تفسير هذه الجملة، والظاهر أنها من كلام مريم وقال الطبري : ليس من كلام مريم، وأنه خبر من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم..
وروى جابر حديثاً مطولاً فيه تكثير الخبز واللحم على سبيل
٤٤٣
خرق العادة لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فسألها : من أين لك هذا ؟ فقالت : هو من عند الله. فحمد الله، وقال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢