قيل : وفي هذه الآيات أنواع من الفصاحة. العموم الذي يراد به الخصوص في قوله : على العالمين، والإختصاص في قوله : آدم، ونوحاً، وآل إبراهيم، وآل عمران. وإطلاق اسم الفرع على الأصل والمسبب على السبب، في قوله : ذرية، فيمن قال المراد الآدباء، والإبهام في قوله : ما في بطني، لما تعذر عليها الإطلاع على ما في بطنها أتت بلفظ : ما، الذي يصدق على الذكر والأنثى، والتأكيد في قوله :﴿إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ والخبر الذي يراد به الاعتذار في قولها : وضعتها أنثى، والاعتراض في قوله : والله أعلم بما وضعت، في قراءة من سكن التاء أو كسرها وتلوين الخطاب ومعدوله في قوله : والله أعلم بما وضعت، في قراءة من كسر التاء، خرج من خطاب الغيبة في قولها : فلما وضعتها، إلى خطاب المواجهة في قوله : بما وضعت والتكرار في : وأنى، وفي : زكريا، وزكريا، وفي : من عند الله، إن الله والتجنيس المغاير في : فتقبلها ربها بقبول، وأنبتها نباتاً، وفي : رزقاً ويرزق والإشارة، وهو أن يعبر باللفظ الظاهر عن المعنى الخفي، في قوله : هو من عند الله، أي هو رزق لا يقدر على الإتيان به في ذلك الوقت إلاَّ الله. وفي قوله : رزقاً، أتى به منكّراً مشيراً إلى أنه ليس من جنس واحد، بل من أجناس كثيرة، لأن النكرة تقتضي الشيوع والكثرة. والحذف في عدة مواضع لا يصح المعنى إلا باعتبارها.
﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُا﴾ أصل : هنالك، أن يكون إشارة للمكان، وقد يستعمل للزمان وقيل بهما في هذه الآية، أي في ذلك المكان دعا زكريا، أو : في ذلك الوقت لما رأى هذا الخارق العظيم لمريم، وأنها ممن اصطفاها الله، ارتاح إلى طلب الولد واحتاج إليه لكبر سنه، ولأن يرث منه ومن آل يعقوب، كما قصه تعالى في سورة مريم، ولم يمنعه من طلب كون امرأته عاقراً، إذ رأى من حال مريم أمراً خارجاً عن العادة، فلا يبعد أن يرزقه الله ولداً مع كون امرأته كانت عاقراً، إذ كانت حنة قد رزقت مريم بعدما أيست من الولد.
وانتصاب : هنالك، بقوله : دعا، ووقع في تفسير السجاوندي : أن هناك في المكان، وهنالك في الزمان، وهو وهم، بل الأصل أن يكون للمكان سواء اتصلت به اللام والكاف أو الكاف فقط أو لم يتصلا. وقد يتجوز بها عن المكان إلى الزمان، كما أن أصل : عند، أن يكون للمكان، ثم يتجوز بها للزمان، كما تقول : آتيك عند طلوع الشمس.
قيل : واللام في : هنالك، دلالة على بعد المسافة بين الدعاء والإجابة، فإنه نقل المفسرون أنه كان بين دعائه وإجابته أربعون سنة. وقيل : دخلت اللام لبعد منال هذا الأمر لكونه خارقاً للعادة، كما أدخل اللام في قوله :﴿ذَلِكَ الْكِتَـابُ﴾ لبعد مناله وعظم ارتفاعه وشرفه. وقال الماتريدي : كانت نفسه تحدثه بأن يهب الله له ولداً يبقى به الذكر إلى يوم القيامة، لكنه لم يكن يدعو مراعاة للأدب، إذ الأدب أن لا يدعو لمراد إلاَّ فيما هو معتاد الوجود وإن كان الله قادراً على كل شيء، فلما رأى عندها ما هو ناقض للعادة حمله ذلك على الدعاء في طلب الولد غير المعتاد. انتهى.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢
وقوله : كانت تحدثه نفسه بذلك، يحتاج إلى نقل. وفي قوله :﴿هُنَالِكَ دَعَا﴾ دلالة على أن يتوخى العبد بدعائه الأمكنة المباركة والأزمنة المشرفة.
﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ هذه الجملة شرح للدعاء وتفسير له، وناداه بلفظ : رب، إذ هو مربيه ومصلح حاله، وجاء الطلب بلفظ : هب، لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلتها شيء يكون عوضاً للواهب، ولما كان ذلك يكاد يكون على سبيل ما لا تسبب فيه : لا من الوالد لكبر سنة، ولا من الوالدة لكونها عاقراً لا تلد، فكان وجوده كالوجود بغير سبب، أتى هبة محضة منسوبة إلى الله تعالى بقوله : من لدنك، أي من جهة محض قدرتك من غير توسط سبب.
وتقدّم أن :
٤٤٤
لدن، لما قرب، و: عند، لما قرب ولما بعد، وهي أقل إبهاماً من : لدن، ألا ترى أن : عند، تقع جواباً لأين، ولا تقع له جواباً : لدن ؟.
﴿مِن لَّدُنْكَ﴾ متعلق : بهب، وقيل : في موضع الحال من : ذرية، لأنه لو تأخر لكان صفة، فعلى هذا تتعلق بمحذوف، والذرية جنس يقع على واحد، فأكثر. وقال الطبري : أراد بالذرية هنا واحداً دليل ذلك طلبه : ولياً، ولم يطلب : أولياء. قال ابن عطية : وفيما قاله الطبري تعقب، وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد، وهكذا كان طلب زكريا. انتهى.
وفسر : طيبة، بأن تكون سليمة في الخلق وفي الدين تقية. وقال الراغب : صالحة، واستعمال الصالح في الطيب كاستعمال الخبيث في ضده، على أن في الطيب زيادة معنى على الصالح. وقيل : أراد : بطيبة، أنها تبلغ في الدين رتبة النبوّة، فإن كان أراد بالذرية مدلولها من كونها اسم جنس، ولم يقيد بالوحدة، فوصفها : بطيبة، واضح وإن كان أراد ذكراً واحداً، فأنث لتأنيث اللفظ، كما قال :
أبوك خليفة ولدته أخرىسكات إذا ما عَضّ ليس بأدْرَدَا
وكما قال :
أبوك خليفة ولدته أخرىوأنت خليفة ذاك الكمال