وفي قوله :﴿هَبْ لِى﴾ دلالة على طلب الولد الصالح، والدعاء بحصوله وهي سنة المرسلين والصديقين والصالحين.
﴿إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ﴾ لما دعا ربه بأنه يهب له ولداً صالحاً، أخبر بأنه تعالى مجيب الدعاء. وليس المعنى على السماع المعهود، بل مثل قوله : سمع الله لمن حمده. عبر بالسماع عن الإجابة إلى المقصد، واقتفى في ذلك جده الأعلى إبراهيم عليه السلام إذ ذال :﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَا إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ﴾ فأجاب الله دعاءه ورزقه على الكبر كما رزق إبراهيم على الكبر، وكان قد تعود من الله إجابة دعائه. ألا ترى إلى قوله :﴿وَلَمْ أَكُنا بِدُعَآاِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ ؟.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢
قيل : وذكر تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ : أحدها : هذا، والثاني :﴿إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى﴾ إلى آخره. والثالث :﴿رَبِّ لا تَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات بهذه الثلاث الصيغ، ودل على أن بين الدعاء والإجابة زماناً. انتهى. ولا يدل على ذلك تكرير الدعاء، كما قيل : لأنه حالة الحكاية قد يكون حكي في قوله ﴿رَبِّ لا تَذَرْنِى فَرْدًا﴾ على سبيل الإيجاز، وفي سورة مريم على سبيل الإسهاب، وفي هذه السورة على سبيل التوسط.
وهذه الحكاية في هذه الصيغ إنما هي بالمعنى، إذ لم يكن لسانهم عربياً، ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير العطف بالفاء في قوله :﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَئاِكَةُ﴾ وفي قوله :﴿فَاسْتَجَبْنَا لَه وَوَهَبْنَا لَه يَحْيَى ﴾ وظاهر قوله في مريم :﴿يَـازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ﴾ اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه..
﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَئاِكَةُ﴾ قيل : النداء يستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به، فلم يكن هذا إخباراً من الملائكة على عرف الوحي، بل نداءً كما نادى الرجل الأنصاري : كعب بن مالك، من أعلى الجبل. قاله ابن عطية، وغيره. ولا يظهر ذلك، بل المناداة تكون لتبشير ولتحزين ولغير ذلك، كما جاء. "يا أهل النار خلود بلا موت" وجاء :﴿فِرْعَوْنُ يَـاهَـامَـانُ ابْنِ لِى صَرْحًا﴾ وإنما فهمت البشارة في الآية من قولهم ﴿إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ﴾ لا إن لفظ نادته يدل على ذلك، لا بالوضع ولا بالاستعمال. ويحتمل أن يكون نداؤهم إياه على سبيل الوحي، أي : أوحي إليهم بأن ينادوه، أو يكون نادوه من تلقاء أنفسهم، كما يقال لك : بلغ زيداً كذا وكذا، فتقول له : يا زيد جرى كذا وكذا. وهما قولان للمفسرين.
وفي الكلام حذف تقديره : فتقبل الله دعاءه، ووهب له يحيى، وبعث إليه الملائكة بذلك، فنادته. وذكر أنه كان بين دعائه والإستجابة له أربعون سنة، والظاهر خلاف ذلك.
والظاهر أن مناديه جماعة من
٤٤٥
الملائكة لصيغة اللفظ، وقد بعث تعالى ملائكة إلى قوم لوط وإلى إبراهيم وفي غير ما قصة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢
وذكر الجمهور أن المنادي هو جبريل وحده، ويؤيده قراءة عبد الله ومصحفه : فناداه جبريل وهو قائم. وقال الزمخشري : وإنما قيل الملائكة على قولهم : فلان يركب الخيل، يعني : إن الذي ناداه هو من جنس الملائكة، لا يريد خصوصية الجمع، كما أن قولهم : فلان يركب الخيل لا يريد خصوصية الجمع، إنما يريد مركوبه من هذا الجنس. وخرج عليه الذين قال لهم الناس، وهو نعيم بن مسعود. وقال الفضل : الرئيس يخبر عنه أخبار الجمع لاجتماع أصحابه معه، أو لاجتماع الصفات الجميلة فيه، المتفرقة في غيره. فعبر عنه بالكثرة لذلك. قيل : وجبريل رئيس الملائكة.
وقرأ حمزة، والكسائي : فناداه، ممالة وباقي السبعة : فنادته، بتاء التأنيث و: الملائكة، جمع تكسير، فيجوز أن يلحق العلامة، وإن لا يلحق. تقول : قام الرجال، وقامت الرجال. وإلحاق العلامة قيل. أحسن، ألا ترى : إذ قالت الملائكة ؟ ولما جاءت رسلنا ؟ ومحسِّن الحذف هنا الفصل بالمفعول.
﴿وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ﴾ ذكر البغوي أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان، ويفتح باب المذبح، فلا يدخلون حتى يؤذن. فبينما هو قائم يصلي في المحراب، يعنى المسجد عند المذبح، والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول، إذا هو برجل عليه ثياب بيض، ففزع منه، فناداه، وهو جبريل : يا زكريا إن الله يبشرك. وقيل : المحراب موقف الإمام من المسجد، وهو قول جمهور المفسرين. وقيل : القبلة. والظاهر أن المحراب هو المحراب الذي قبله في قوله :﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾ ففي المكان الذي رأى فيه خرق العادة، فيه دعا، وفيه جاءته البشارة. وهذا يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم.
وقيل : الصلاة هنا الدعاء، وفي الآية دليل على جواز نداء المتلبس بالصلاة وتكليمه، وإن كان في ذلك شغل له عن صلاته.