فكان من ردّه ما قال حاجبه وكونه استثناءً متصلاً بدأ به الزمخشري. قال : لما أدّى مؤدّي الكلام، وفهم منه ما يفهم منه، سمي كلاماً.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢
وأما ابن عطية فاختار أن يكون منقطعاً. قال : والكلام المراد به في الآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس، فحقيقة هذا الأستثناء أنه منقطع، وبدأ به أوّلاً، فقال استثناء الرمز وهو استثناء منقطع، ثم قال : وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلا، والرمز هنا : تحريك بالشضفتين، قاله مجاهد. أو : إشارة باليد والرأس، قاله الضحاك، والسدّي، وعبد الله بن كثير. أو : إشارة باليد، قاله الحسن. أو : إيماء، قاله قتادة. فالإيماء هو الإشارة لكنه لم يعين بماذا أشار. وروي عن قتادة : إشارة باليد أو أشارة بالعين، روي ذلك عن الحسن.
وقيل : رمزه الكتابة على الأرض. وقيل : الإشارة بالإصبع المسبحة. وقيل : باللسان. ومنه
٤٥٢
قول الشاعر :
ظل أياماً له من دهرهيرمز الأقوال من غير خرس
وقيل : الرمز الصوت الخفي.
وقرأ علقمة بن قيس، ويحيى بن وثاب : رمزاً، بضم الراء والميم، وخرج على أنه جمع رموز، كرسل ورسول، وعلى أنه مصدر كرمز جاء على فعل، وأتبعت العين الفاء كاليسر واليسر.
وقرأ الأعمش : رمزاً، بفتح الراء والميم، وخرج على أنه جمع رامز، كخادم وخدم، وانتصابه إذا كان جمعاً على الحال من الفاعل، وهو الضمير في تكلم، ومن المفعول وهو : الناس. كما قال الشاعر :
فلئن لقيتك خاليين لتعلمنأيىّ وأيّك فارس الأحزاب
أي : إلاَّ مترامزين كما يكلم الأخرس الناس ويكلمونه.
وفي قوله :﴿إِلا رَمْزًا ﴾ دلالة على أن الإشارة تتنزل منزلة الكلام، وذلك موجود في كثير من السنة. وفي الحديث :"أين الله". فأشارت برأسها إلى السماء، فقال :"أعتقها فإنها مؤمنة". فأجاز الإسلام بالإشارة وهو أصل الديانة التي تحقن الدم وتحفظ المال وتدخل الجنة، فتكون الإشارة عامة في جميع الديانات، وهو قول عامة الفقهاء.
﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا﴾ قيل : الذكر هنا هو بالقلب، لأنه منع من الكلام. وقيل : باللسان لأنه منع من الكلام مع الناس ولم يمنع من الذكر. وقيل : هو على حذف مضاف، أي : واذكر عطاء ربك وإجابته دعائك. وقال محمد بن كعب القرظي : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا، وللرجل في الحرب. وقد قال تعالى :﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ وأمر بكثرة الذكر ليكثر ذكر الله له بنعمه وألطافه، كما قال تعالى :﴿فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ﴾.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٣٢
وانتصاب : كثيراً، على أنه نعت لمصدر محذوف، أو منصوب على الحال من ضمير المصدر المحذوف الدال عليه : اذكروا، على مذهب سيبويه.
﴿وَسَبِّحْ بِالْعَشِىِّ وَالابْكَـارِ﴾ أي : نزه الله عن سمات النقص بالنطق باللسان بقولك : سبحان الله. وقيل : معنى وسبح وصلّ، ومنه : كان يصلي سبحة الضحى أربعاً، فلولا أنه كان من المسبحين على أحد الوجهين.
والظاهر أنه أمر بتسبيح الله في هذين الوقتين : أول الفجر، ووقت ميل الشمس للغروب، قاله مجاهد وقال غيره : يحتمل أن يكون أراد بالعشيّ الليل، وبالإبكار النهار، فعبر بجزء كل واحد منهما عن جملته، وهو مجاز حسن.
ومفعول : وسبح، محذوف للعلم به، لأن قبله :﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا﴾ أي : وسبح ربك. و: الباء في : بالعشي، ظرفية أي : في العشي.
وقرىء شاذاً والإبكار، بفتح الهمزة، وهو جمع بكر بفتح الباء والكاف، تقول : أتيتك بكراً، وهو مما يلتزم فيه الظرفية إذا كان من يوم معين ونظيره : سحر وأسحار، وجبل وأجبال. وهذه القراءة مناسبة للعيش على قول من جعله جمع عشية إذ يكون فيها تقابل من حيث الجمعية، وكذلك هي مناسبة إذا كان العيش مفرداً، وكانت الألف واللام فيه للعموم، كقوله :﴿إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ﴾ وأهلك الناس الدينار الصفر.
وأما على قراءة الجمهور : والإبكار، بكسر الهمزة، فهو مصدر، فيكون قد قابل العشي الذي هو وقت، بالمصدر، فيحتاج إلى حذف أي : بالعشي ووقت الإبكار. والظاهر في : بالعشي والإبكار، أن الألف واللام فيهما للعموم، ولا يراد به عشى تلك الثلاثة الأيام ولا وقت الإبكار فيها.
وقال الراغب : لم يعن التسبيح طرفي النهار فقط، بل إدامة العبادة في هذه الأيام. وقال غيره : يدل على أن المراد بالتسبيح الصلاة، ذكره العشي وازبكار فكأنه قال : اذكر ربك في جميع هذه الأيام والليالي، وصل طرفي النهار. إنتهى.
ويتعلق : بالعشي، بقوله : وسبح، ويكون على إعمال الثاني وهو الأولى، إذ لو كان متعلقاً بقوله : واذكر ربك، لأضمر في الثاني، إذ لا يجوز حذفه إلا في ضرورة.
قيل : أو في قليل من الكلام، ويحتمل أن يكون من باب
٤٥٣
الإعمال، فيكون الأمر بالذكر غير مقيد بهذين الزمانين.